كان من الغريب بالنسبة لي وانأ أتشرف بزيارة الإمامين الكاظمين عليهما السلام في سفرتي الأخيرة لمدينة بغداد ان يطرق سمعي ان متولي خدمة الإمامين الكاظمين عليهما السلام شخصية تحمل دكتوراه في إدارة الأعمال والأعجب من ذلك انه بدرجة علمية “بروفسور” ، لان هكذا تخصص علمي في الغرب مكانه في أسواق المال العالمية ومؤسسات البورصة أو منظمات التجارة والربحية .
وقد لفت سمعي أحاديث الزائرين والخدم عن هذه الشخصية العجيبة ، إذ جمعت هذه الشخصية صفات قلما تجدها في مسئول عراقي في هذا الزمان كل هذا دفعني إلى التقصي والتحقيق والسؤال عن تاريخ هذا العراقي الأصيل.
فبدأت رحلتي في البحث في شبكة المعلومات ومع الأصدقاء والمعارف الذين يعرفون سيرته عن كثب فازددت تعجباً أكثر من ذي قبل ..
بداية فهو من مواليد مدينة الكاظمية المقدسة في خمسينيات القرن الماضي ومن أسرة لها مكانتها المميزة ضمن البيوتات المعروفة في هذه المدينة فضلا عن ذلك ، فأن السيد جمال الدباغ حفيد لأهم خطباء المنبر الحسيني في العالم الإسلامي ذات التأثير الكبير في نشر قيم الدين الإسلامي الحنيف ألا وهو المرحوم الشيخ كاظم آل نوح الخطيب المفوه زعيم الخطابة الحسينية قبل ستين عاماً مضت من تاريخ العراق، إذا علمنا ان الشهيد السعيد آية الله محمد باقر الصدر فيلسوف العصر نقل عنه البعض انه تأثر بمواعظه الدينية والأخلاقية في بداية حياته وأثرت فيه إلى نهاية حياته الشريفة ، إلى هنا زال عني العجب عما طرحته في بداية مقالي لاني عرفت الانتماء والولاء .
فقد ابلغني بعض الإخوة من الأساتذة ان مؤلفاته العلمية تجاوزت المائة مؤلف بين كتاب وبحث ومقال وتحقيق . وقد حدثني بعض الطلبة الذين تتلمذوا على يد هذه الشخصية العلمية انه في بداية عمله كأستاذ ومعاوناً للعميد في الدراسات العليا في أحدى كليات التعليم العالي في العراق وجد ان طلبة الدراسات العليا يعانون من عرف مرهق لكواهلهم لاسيما الطلبة الفقراء ألا وهي فقرة إقامة مأدبة طعام فاخرة بعد انتهاء مناقشة طلبة الدراسات العليا والتي تكلف الطلبة مبالغ مالية قد تضاهي نفقات كتابة رسالة الماجستير في حينه !! وقد التفت “الدباغ” لهذه المسالة المهمة وأمر بإلغاء هذه الفقرة وهذه تعد أولى بوادر إصلاح “الأعراف غير الجامعية” التي جعلت منه محلا لانتقاد واستعداء ذوي “الاجربة السغبا” و”الاكراش الجوفا” والتي أظهرت عداءها له بعد توليه عمادة الكلية ، حيث أعاد للأستاذ الجامعي هيبته وللعميد الأكاديمي شخصيته والتي لم ترق بأي حال من الأحوال لأساتذة الصدفة وعمداء الغفلة ، إذ سن سنة حسنة تمثلت بإيقاف جميع مظاهر الغرور والتكبر وإساءة التصرف بالمال العام من ركوب السيارات أو اتخاذ المرافقين الشخصيين أو الحماية أو إنفاق النثريات غير الضرورية أو تمييز البعض من ذوي النفوذ ، وكان منهجه منهج “العدالة المطلقة ” وليست “النسبية ” و”القانون يطبق على الجميع ” فخرجت ضده المظاهرات بتحريض واضح من المتضررين من هذه السياسة .
إلا ان كل هذه المنغصات لم تفت في عضده أو تجعله يتخلى عن ما يؤمن به من مبادئه عندما أصبح رئيساً لأكبر مؤسسة تعليمية في العراق “هيئة التعليم التقني ” وما أدراك ما هيئة التعليم التقني ثم ما أدراك ما هيئة التعليم التقني ؟ فهي صورة لعراق مصغر تضم حوالي 46 تشكيلا أكاديميا وأكثر من 400 قسم علمي في مختلف التخصصات التقنية والتطبيقية ، فسار على ذات النهج لا يخشى في الله لومة لائم وسقى أخرها بكأس أولها.
نقل لي احد أفراد حماية “الهيئة” واقعة اقرب للخيال وأشبه ما تكون بقصص الزاهدين في عصور صدر الإسلام الأولى ، مفادها انه جرت العادة على توزيع أرباح وحوافز ربع سنوية على منتسبي ديوان هيئة التعليم التقني وكانت آلية التوزيع فيما سبق ان يتم تقسيم الأرباح وفقاً للشهادة والخدمة والمنصب ، إلا ان السيد “الدباغ” ألغى هذا التقسيم الطبقي ووزع الأرباح بالتساوي بين الجميع فما كان من ضابط الحماية بدرجة عقيد إلا ان رفض استلام الحوافز لأنها ساوت بينه وبين أفراد حمايته الشرطة فقيل له “ان رئيس الهيئة الذي هو بدرجة وكيل وزير كانت حوافزه مساوية لحوافز موظف الخدمات في الديوان “!! فلماذا تستكثر علينا ان نتساوى معك في الحوافز ونختلف عنك في الرواتب والمهام !!.
أما ما يتعلق بموضوع الحمايات والولائم و الايفادات فحالها حال موضوع الحوافز سابقة الذكر فلا حمايات ولا حواشي ولا حاجب ولا بواب ولا سيارات مصفحة ولا مخصصات وقود ولا نفقات اتصال أو مخصصات ليلية . نقل لي احد التدريسيين في المعهد التقني الدور .. ان “الدكتور جمال” قام بزيارة إلى المعهد لتفقده ، فوصل رئيس الهيئة يرافقه مدير قسم وسائق لسيارة بسيطة بدون حمايات أو سيارات دفع رباعي أو شرطة ولم يتناول من الطعام الذي اعد له شيئا وعاد بذات الطريقة التي وصل بها مع مفارقة ان عميد المعهد ومعاونوه قد طلبوا ان يقبل الهدايا التي وضعت في سيارته ألا انه أعادها كلها ولم يقبل منهم شيئا ألا قنينة ماء للطريق !! .
أما ما يتعلق باهتمامه بإصلاح الجانب العلمي في الهيئة والذي أدى فيما بعد إلى انزعاج الكثير ممن فتح دكانه للاسترزاق على حساب الإصلاح العلمي ، فانقل حادثة واحدة وهي موضوع قسم “الأدلة الجنائية” الذي افتتح بطريقة غير علمية فلا رئيس القسم من المتخصصين أو في الأقل قريبا للتخصص إذ كان مدرساً لمادة حقوق الإنسان !! ولا حتى مدرسي المواد الأخرى فأول عمل قام به الدكتور جمال بناءا على مسؤوليته الإدارية والعلمية والأمانة التي قبل بها هي ان علق القبول بالقسم وأغلقه لحين توفر الكادر و لعدم توفر المتخصصين ، فقامت قيامة الوزارة في حينها على الموضوع لدواعي انتخابية على ما يبدو .
أما موضوع الإجازات الدراسية لغير المستحقين ولغير المتخصصين في المجال التقني فقد وضع معياراً صارماً بعيداً عن كل ما يتعلق بالضغوط ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر احد المتقدمين للحصول على شهادة الماجستير في علوم القران والذي لديه وساطة من أعلى سلطة تنفيذية في الحكومة وقتذاك لم تشفع له في الحصول على الموافقة من “الدباغ ” لان تخصصه (علوم القران) لا يتناسب مع التخصصات التكنولوجية للهيئة ولا توجد مادة علمية للتدريس ضمن المناهج التي تدرس في الأقسام العلمية ، كل هذه وغيرها جعلت من النزيه والكفء والعادل “جمال الدباغ ” مستهدفاً فلم يدم بقاءه في التعليم التقني والعالي عموما إلا تسعة اشهر وبضعة أيام قدم على إثرها طلباً بالإحالة على التقاعد فخرج تاركاً لتلامذته وللتاريخ دروساً “أنست من كان قبله وأتعبت من جاء بعده” وكانت سيرته كسيرة الأولياء والصالحين . فاثني عليه بأثره ولو انه يغتبط أثنيتُ بالآثار يا كوكبا ما كانَ اقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحارِ وهلال أيًام مضى لم يستدرْ بدراً ولم يمهل لوقت سِرار.