توفي في يوم 4 حزيران 2016 الملاكم المشهور محمد علي في الولايات المتحدة عن عمر ناهز 74 عاماً. شهرته العالمية جعلت نبأ وفاته تتصدر أخبار المصادر الاعلامية الدولية بجميع اتجاهاتها. ولعل مهارته الرياضية في الملاكمة التي حصل فيها على لقب البطولة العالمية في الوزن الثقيل لعقدين من الزمن هي التي جذبت له الشهرة الجماهيرية. ولكن يعود السبب الرئيس لهذه الشهرة عالمياً هو موقفه الاخلاقي التي اتخذه كإنسان دافع عن مبادئه وعما يعتقد به فجعلت منه رمزاً بطولياً يحتذى به في جميع أنحاء العالم. فكثير من الرموز الرياضية البطولية في العالم يعلو صيتها في الاوساط الجماهيرية ويرتفع اسمها في شتى الاقطار، ولكن لم يصل الى درجة التعلق والسمو الذي حظى به ملك حلبة الملاكمة محمد علي. فعظمة صيته ملأت شتى الاوساط السياسية والجماهيرية، الاعلامية والثقافية، وحتى الدينية، وبجدارة نال إعجاب وفخر وإعتزاز واحترام الجميع في شتى الاقطار والأمم. فلا أحد يشك بالشجاعة الجسدية المتناهية لمحمد علي وفي نيله الميدالية الذهبية الاولمبية وفوزه بثمانية من أوسمة القفازات الذهبية (للملاكمة)، ليصبح أصغر رجل في التاريخ يطيح ببطل الملاكمة للوزن الثقيل وهو في عمر الـ 22 عاماً. فما هو السر في ذلك؟
كانت هنالك سمة يتميز بها محمد علي في حلبة الملاكمة، وهي عدم الخوف عند دخوله الحلبة مع أي من منافسيه. فجميع الملاكمين إنما يحاولون حماية أنفسهم ويغطون رؤوسهم بقفازات أيديهم، ويكونوا على أشد الحيطة والحذر من أن يصابوا بلكمة تقع على ووجههم . أما محمد علي فقد كان يرهب منافسه بالتحرك بحرية والقفز من مكان الى آخر وكأنه مسيطر على الحلبة بطريقة فنية ومهنية فائقة. ولهذا كان يطلق عليه بِـ “رقاص” الحلبة. فهكذا كانت تبدوا حركاته بهذه الطريقة وكأنه لا يهاب من منافسه. وبذلك كان يرهبهم بشجاعته ومهارته الرياضية. ففاز محمد علي بالمدالية الأولمبية الذهبية، ولقب البطولة العالمي بالملاكمة ، وعندما فقد ذلك اللقب نتيجة سجنه ومواقفه السياسية، أستعاد لقبه في فترة كان يعتقد بأنه قد تجاوز عمر الملاكمة، فكان في مرحلة الثلاثينات من عمره، ولكنه أصبح بطل العالم للملاكمة للوزن الثقيل لثلاث مرات متتالية، في 1964 و 1974 و 1978.
ومن صفاته التي يتميز بها عن غيره من المشاهير أونجوم الرياضة بأنه كان يُعبّر عما كان يعتقد به بكل صراحة “لا لف فيها ولا دوران” – كما يقال. فمن خصائصه الشخصية بأنه تصرفاته كانت تتصف بالعفوية، ليس فيها تصنع أو تملق، والتي قد تحصل لكثير من الأشخاص وهم في أعلى درجات الشهرة والمنصب والمنزلة الإجتماعية والقدرة المالية الكبيرة. ولكن محمد علي كان يصرح في حديثه عن عميق ما يعتقد به بدون رتوش مغلفة بسمات التبرير أو حالات من الإعتذار. فهذا التصرف الفريد من نوعه من شخص في مقتبل العشرين من العمر ينم عن شجاعته الأدبية الصادقة. فمع أنه أمريكي أسود، في زمن كان تسود في وطنه ظاهرة العنصرية ضد الناس الملونين وخاصة ذوي البشرة السوداء، إلا أنه كان يعبر عن رفضه لهذه العنصرية بأعلى نبرات الصراحة والنبذ لهذه الحالة غير الإنسانية من باقي أبناء أمته. فقد كان في قمة شهرته، وفي مرحلة شبابه اليافعه، وكان من المفروض أن يراعي ما حصل عليه من الشهرة المفرطة التي حصل عليها، ولكنه وقف بحزم ضد هذه القيم غير الأخلاقية السائدة في مجتمعه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. فأصبح شخصية ذات كرزما جاذبة لا يضاهيها أحد، وأصبح إعلامياً يستقطب الجماهير المحبة له والنافرين منه. ولكنه وقف صامداً بمواجهتة الرافضة لحالة العبودية التي يتسم بها المجتمع الأمريكي من أبناء البشرة السوداء آنذاك. فعلى الرغم من غناه المالي الكبير وشهرته الجماهيرية الواسعة، كان لا يستطيع من دخول بعض المطاعم أو الصعود في مقدمة وسائط النقل الممنوعة والمحرمة على السود أو المشاركة في النشاطات الإجتماعية المخصصة لذوي البشرة البيضاء. فصراحته الاعلامية لم تنقطع أبداً رغم كل الرفض الاجتماعي والرسمي ومن النخب واصحاب الشأن والتأثير.
اعتنق الإسلام بعد إتصاله بجمعية دينية إسمها (أمة الإسلام) والتي كان يقودها أليجا محمد وكان من أشهر دعاتها الشخصية المعروفه عالمياً (مالكوم أكس)، وعندها غير إسمه الى (محمد علي) فقد كان إسمه : كاسيوس كلاي جونيور، المولود عام 1942 في ولاية كنتاكي. وجرى تغيير إسم كاسيوس الأبن رسمياً بوقت قصير من إعتناقه الإسلام، فأطلق على إسمه الأول محمد وإسم عائلته علي، وكان يصرخ بتهجم مع الذين ينادونه بإسمه السابق: كلاي (وما نناديه به اليوم بإسم محمد علي كلاي إنما هو إجحاف بحقه). فاز بلقب البطولة العالمي للملاكمة على الملاكم سوني ليستون في عام 1964، ليصبح أصغر ملاكم يفوز بلقب البطولة العالمي للملاكمة للوزن الثقيل وهو في هذا العمر الصغير، 22 عاماً. فأصبح يطلق عليه لقب (الأعظم أو الأكبر) والذي كان ينادي به نفسه دائماً، فأصبح جزءً من إسمه.
في فترة الستينات من القرن الماضي، كانت امريكا تخوض حرباً عسكرية ضد الشيوعيون في جنوب شرق آسيا، استمرت لأكثر من عشرة أعوام. في ذلك الحين فرضت حكومة الولايات المتحدة التجنيد الإلزامي للإلتحاق بالقوات المسلحة. عارض محمد علي التجنيد ضمن الجيش الامريكي للقتال في فيتنام. فكان يقول: “ليس لدي خلاف مع الفيتكونع (الجيش الفيتنامي)، ولم يطلق أي منهم عليَّ صفة الزنجي” (كما كان يحصل في الولايات المتحدة). بهذه الكلمات المدوية أوضح محمد علي عن معارضته لحرب الولايات المتحدة ضد فيتنام، ورفض التجنيد الإلزامي للقتال في الحرب، وتقديم نفسه قرباناً لهذه الحرب التي لا يعتقد بأهدافها. وهذا الرفض كان نابعاً من ضميره الحي. فقد جرى استدعائه للمشاركة في الإنخراط في القوات المسلحة الامريكية والمشاركة في الحرب لثلاث مرات، ولكنه رفض مثل هذه الأوامر العسكرية مما أدى الى إلقاء القبض عليه واعتقاله وتجريده من حمله لقب بطل الملاكمة للوزن الثقيل في العالم، وقضى في السجن فترة ثلاث سنوات لتنتهي بتبرئته من قبل المحكمة العليا الامريكية، ليس لعدالة قضيته، وإنما لأسباب إجرائية قضائية جرت في حكم إعتقاله.
فقد كان محمد علي آنذاك الرياضي الأكثر شهرة في العالم مندداً بصورة علنية بحرب امريكا في فيتنام، في الوقت الذي كان فيه الدعم الشعبي لحرب فيتنام في ذروته، ولكن لم يُعر محمد علي لذلك أي اعتبار، لأنه حَكّمَ ضميره وأعلن موقفه. ومع أنه كان من أشهر وأعظم الملاكمين في وقته، ولكن بالنسبة للشعب الامريكي، فإن محمد علي كان قد ارتكب أقبح المساوئ وقام بأعظم المخاطر وتجاوز عندها الحدود ، أوبتعبير أدق فإنه قد اقترف المحرمات. وبرمشة عين أصبح محمد علي شخصية مثيرة للجدل، وخاصة أنه إعلان أعتناقه الاسلام وغير اسمه، فأصبح واحد من أكثر الشخصيات العامة كرهاً ومنبوذاً في أمريكا، جعلت منه هدفا للسخرية من الجمهور والجهات الرسمية والرياضية. فجرى تجريده بصورة رسمية من رخصة مزاولة الملاكمة وبذلك إنتهت حياته المهنية الرياضية التي كانت مصدر رزقه. وإزدات المقاطعة عليه حتى أن بعض حلفائه انقلبوا عليه.
فجماعة (أمة الإسلام) وهي المجموعة الدينية التي إنتمي لها محمد علي تبرأت منه لصراحته العلنية والجريئة في معارضة الحرب والتمييز العنصري، وعندها أصيب بخيبة أمل لهذا التبري ليس من قبل جماعته الإسلامية الدينية فحسب، بل أصبح منبوذاً شعبياً وأعتبر نشاطه وتحركه وجرأته وموقفه المتحدي للحرب موقفاً راديكالياً يشمئز منه حتى الجنود السود من أبناء قومه لما كان لتلك الحرب الأمريكية في فيتنام في منتصف وأواخر عقد الستينات التأييد الشعبي الكبير.
فموقف محمد علي كان يعد في ذلك الوقت بمستوى (الكفر) فهو موقف خائن وغير وطني تماماً. وكانت الضغوط عليه والنصائح التي تقدم اليه بأن يكون معتدلاً في موقفه الرافض، وأن يكون واقعياً وبراغماتياً، وبالمصطلح الديني الرائج عندنا، كان عليه أن يستعمل التقية في ذلك. ولكنه بقي ثابتاً على موقفه حتى النهاية.
وفي تلك المرحلة في تاريخ الولايات المتحدة كان هنالك صراع اجتماعي كبير ضد التمييز العنصري وأنطلق فيها السود والمُلوَّنين في امريكا من اجل المطالبة بالحقوق المدنية والمساواة مع بقية الموطنين ذوي البشرة البيضاء. وكان رمز هذا التحرك المعارض القسيس مارتن لوثر كينغ. وفي خضم هذا الصراع الإجتماعي كانت تدور رحى الحرب الامريكية في فيتنام، فكان موقف محمد علي الرافض للحرب ومعارضته الإشتراك في تلك الحرب بالاضافة الى كونه مسلم أصبح فيها ذلك الملاكم المشهور من الأصوات المؤثرة والمزعجة أو بالاحرى المثيرة للشمئزاز في لذلك الصراع السياسي الاجتماعي العسكري المؤثرة.
خسر محمد علي في تلك الفترة من الصراع التاريخي كل شيء. فهو الذي كان آنذاك في قمة تألقة الرياضي وبداية شبابه في عمر 25 عاماً وفي اوج شهرته الجماهيرية وعظمة قواه الجسدية. فمالياً، كان محمد علي حينئذٍ يكسب الملايين في كل سباق ملاكمة يقوم به. والبطولة تأتي معها الإمتيازات الكبيرة، ومنها عقود الاعلانات التجارية والحصول على أدوار تمثيل في افلام الهوليوود، والظهور في البرامج التلفزيونية وإلقاء الكلمات والخطب في المناسبات العامة، وكلها هذه تدر عليه الأموال بالملايين (والملايين في ذلك الوقت تساوي العشرات من الملايين الآن). ولكنه خسر شهرته وسمعته عندما قضى سنوات شبابه في السجن مصاحبة بالتنكيل بسمعته ووطنيته نتيجة تخلفه عن أداء الواجب العسكري في الإلتحاق بالقوات المسلحة أثناء الحرب (وهي جريمة لا تغتفر). فخسر حينها مهنته وهي في عظمة قواه الجسدية، فمرحلة تألق الملاكمين والرياضيين عموماً لا يتجاوز مرحلة العشرينات من العمر. دفع محمد علي كل هذا من أجل الثبات على مبادئه. فقد خرج من السجن وهو مكسور مالياً، فأعلن أفلاسه وأصبح يعتمد على مساعدات الاخرين في قوت يومه ومصاريفه العائلية اليومية.
كان جهاد محمد علي ليس مقتصراً على معارضته التمييز العنصري ضد المواطنين من الأصول الافريقية، أو وقوفه ضد الحرب الفيتنامية، بل ناضل أيضاً من أجل حقوق المرأة، وحفظ البيئة والحقوق المدنية لجميع المواطنين. وإذا كان المشاهير عادةً ما يعرفون بما يجنونه من ملايين الأموال والممتلكات، كانت شهرة محمد علي ذات قيمة معنوية
أخلاقية. وكان ثابتاً لم يتزعزع عن مواقفه التي تجرأ على إتخاذها والثبات عليها رغم كل الخسائر المادية التي لحقت به. فشجاعته وقناعته بصحة مواقفه ومبادئه التي نادى بها هي التي مدته بالشهرة أكثر وأصبح شخصية رمزية محبوبة لدى الجماهير في شتى أرجاء المعمورة. فهو الوحيد من مشاهير الرياضة الذي كان نجاحه ونجميته مستمدة من داخل الحلبة ومن خارجها في آن واحد.
فعادةً ما يقاس فيها المشاهير والنجوم في عصرنا بممتلكاتهم المادية، ولكن بعد صعود محمد علي تظهر وكأن تلك المظاهر المادية للشهرة وكأنها رخيصة ولا قيمة لها مقياساً بشهرة محمد علي ونوع التأييد الذي حصل عليه عندما تلاشى نجمه الرياضي في الملاكمة! فنحن الآن في عصر محمد علي بحق، نحكم على أرث المشاهير ونقيم نجاحهم من خلال ما يعطوه للناس وما يُقدموه للبشر وما يَـقدمون عليه من مخاطر من جراء مواقفهم الإنسانية والاخلاقية. فهذا المقياس هو الذي نتطلع اليه الآن عندما نقييم رياضي ما أو فنان أو من المشاهير في شتى المجالات، بالمواقف البطولية والثبات عليها. وما تقوم به ممثلة هوليوود المشهورة أنجلينا جولي من أعمال لضحايا الحروب إلا مثال على إحتذائها بمحمد علي.
وهنالك جانب من شخصية محمد علي جعلت الجماهير ملتصقة به حتى وفاته، إلا وهو تواضعه وحبه للجماهير من حوله. فالميزة العامة للمشاهير هي نرجستهم العالية وأنانيتهم وإبتعادهم عن الناس الى درجة الهروب والإختفاء والعزلة عنهم. فيحاطون بالخواص والحمايات الشخصية وقوافل السيارات المصفحة وإرتيادهم الأماكن الترفيهية المعزولة ويقيمون في محل سكناهم المحصنة. وهذه حالة نشاهدها عندنا ظاهرة للعيان ليس بما يتصف به مسؤولو الدولة الكبار، بل وحتى السياسيون وأصحاب المنصب العامة ورجال الدين وأبنائهم وذويهم وطريقة اختبائهم من الجماهير وعزلتهم عنهم. ولكن محمد علي كان بين الحشود لم يرفض بتاتاً اي طلب من المارة بتوقيع منه، أو التقاط صورة معه أو تقبيل الاطفال أو العناق مع من يريد حضنه من المعجبين، بل وحتى الدخول في الحديث المطول معهم وسرد القصص والنكات مع المعجبين.
سيتذكر التاريخ محمد علي ليس لأنه رقاص حلبة الملاكمة كما يصفه الآخرون أو لأنه “يطير كالفراشة ولكنه يلسع مثل النحل” كما يصف نفسه، ولكن ستكون ذكراه في مخيلتنا بأنه كان يقف شامخاً قويا وشجاعاً، وفي معظم الأحيان، وحيداً ومنبوذاً خارج حلبة.
ومن الدروس التي يمكن أن نستقيها من شخصيته والتي يمكن أن نستفيد فيها في حياتنا هي:
الشجاعة وثبات الموقف
دعونا لا ننسى أن محمد علي كان واحدا من الشخصيات المبغوضة والمحتقرة في الولايات المتحدة لأنه وقف يدافع عن مبادئه ومعتقداته وخسر من جرائها كل شيء، من اللقب الرياضي والثروة والشهرة ودخل السجن في نهاية المطاف، ولكن لم تحجبه تلك الخسائر الفادحة عن الثبات فأكسبه احترام العدو مع الصديق. فدامت شهرته فترة أطول من حياة منتقديه وأثبت التاريخ صحة مواقفه. فقد أثبت أنه كان يقف مع الحق فعاش حياة أطول من منتقديه، وأثبت أنه يكون صحيحا بشأن القضايا، فكان في جميعها على الجانب الصحيح من التاريخ. وفي النهاية اصبح رمزاً بطولياً يشار له بالبنان. فهذا يعد الى حد بعيد أكبر إرث حصل عليه وهي عاقبة حياته. اين نحن منه، فنرى بأم أعيننا من يبيعون كل شيء من أجل المنصب والجاه والمال والجنس، وهم في أواخر أعمارهم، وأرجلهم تتدلى في القبور.
الثقة بالنفس
في تلك الفترة المشحونة بالتمييز العنصري فإن على الرموز الرياضية ذوي البشرة السوداء من أجل أن يكونوا مقبولين اجتماعياً عليهم التواضع والتصنع بثقافة امريكا البيضاء. ولكن محمد علي لم يستطع أن يتقبل مثل هذه النظرة الدونية لشخصه وأبناء جلدته. فكان عزيز النفس يطلب من الجميع وبقوة معاملته بالمثل بغض النظر عن بشرته السوداء. فأصبح يمثل رمزاً لجميع الأميركان السود، فهو يعبر عما في داخلهم من مشاعر بما لا يستطيعوا التفوه بها أنفسهم.
فمثلاً كان المفهوم السائد بأنه البياض هو رمز الجمال، وأذا أردت أن تكون جميلاً عليك أن تتصف بالبياض. فنظرة الجمال كانت تتصف بالبشرة البيضاء (كما هي عندنا اليوم، فأعظم معالم الجمال عندنا هو بياض البشرة – فنحن مصابون بداء التمييز العنصري مع نفينا له وإجحادنا به ظاهرياً).فكان في كل مقابلاته ولقاءاته الإعلامية يصرخ أمام الكاميرات وفي العلن بأنه هو الأجمل شكلاً والأعظم قوة، ولا يضاهيه أحد في ذلك. وبقوة صراخه المستمر حول هذا الموضوع، نشأت بمرور الزمن حالة إجتماعية عامة في أمريكا شعارها (الأسود علامة الجمال)، أو (الأسود جميل) المقبولة عالمياً الآن. ليصبح متعارفاً الآن بأن الجمال ليس مقتصراً على البياض، فهنالك الآن مثلاً ملكات الجمال من السود يفوزون على غيرهن من ذوي البشرة البيضاء. كما حدث بعد وفاة محمد علي بيوم، حيث فازت دشونا باربر
السوداء بملكة جمال أمريكا. وما كان ليحدث كل هذا التغيير الثقافي على مستوى العالم لولا فعل وصراخ وثقة محمد علي بنفسه وإعلانه ذلك بكل صراحة وقوة وصوته الجهوري العالي وبشجاعة اللامتناهية. فقبل محمد علي، كان يشعر السود بالدونية والحياء والخجل بخلقتهم وغير معتزين بلون بشرتهم، ولكن بفضل محمد علي أصبحوا ليسوا معتزين بجمالهم فحسب بل فخورين بأنفسهم كما خلقهم الله تعالى، وساد هذا المفهوم العالم كله.
ففي الوقت الذي كان يعاني فيه السود من الظلم العنصري في الجانب الإجتماعي وبنظرة الإزدراء في البعد الثقافي وبالمعاملة السيئة والإجحاف بالحقوق الإنسانية في داخل العملية السياسية، ضحى محمد علي بأفضل سنوات حياته من أجل مصارعة كل هذا الظلم في مختلف الأبعاد، فوقف شامخاً من أجل ما بعتقد به بأنه على حق. فلم يكن المجتمع الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً متعوداً على سماع رجل أسود يتحدث عن نفسه بجرأة أمام الآخرين. فقد غير محمد علي الجدل الثقافي في المجتمع الامريكي، لأنه من خلال شهرته الرياضية وجاذبيته (الكرزما) التي يتسم بها طرح جميع المواضيع على الطاولة بما يقال في السر والعلن، والتي كان منها إشهار إسلامه، وإنضمامه الى جماعة (أمة الإسلام)، والتخلي عن إسمه (الذي حصل عليه – كما يدعي – عن طريق العبودية)، ورفضه التجنيد والمشاركة في الحرب الوطنية ضد الشيوعية. ومع منعه رسمياً من الملاكمة وتجريده من لقبه الذي حصل عليه ببطولة الملاكمة في الوزن الثقيل، إلا أن ما نادى به خلال حياته تحقق وأصبح سائداً. وحقاً ما قاله غاندي بأن الذي يجاهد لتغيير الواقع: أولاً سيتجاهلوك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربوك، ثم تحقق الفوز”. وهذه من سنن الحياة للذين يطلبون الإصلاح والتغيير.
فثبات محمد علي على مواقفه وثقته بنفسه استطاع هزيمة النظام العنصري في الولايات المتحدة. فلم يتقبل ولا للحظة واحدة بأن يتصنع وأن يكون – كما يقال – رجلاً أبيض ببشرة سوداء. فكان يقدم نفسه ليس على أساس أنه مواطن أمريكي، بل صرح بعلو نفسه: “أنا أمريكا”. وعقب على ذلك بفخر وكبرياء: “أنا ذلك الجانب الذي لم تكن تعترف به وتعتاد عليه… أنا الأسود المغرور الواثق من نفسه… المعتز بإسمي الذي أنا أخترته لنفسي… وبالدين الذي أنا اعتقدت به… ولي أهدافي الخاصة بي وحدي”. فرفضه المجتمع الأمريكي والنخب السياسية والثقافية والاجتماعية، ولكن في نهاية المطاف، جعل من الجميع أن يتقبله كرجل أسود، على قدم المساواة مع الرجال البيض والآخرين، ممن يخالفونه بلون بشرته وعقيدته الدينية وأصله العرقي.
فإتسم محمد علي بشخصية لا يمكن إسكاتها أو شرائها أو تطويعها أو جعلها تأتمر بما هو متعارف عليه. فكان فعلاً رجلاً ثورياً مغامراً لا يهاب شيئاً حتى ضد الأعراف السائدة أو الإنطباعات المـُسّلم بها. فقد استغل مهارته الرياضية وشهرته وحب الظهور لديه لغرض عرض أفكاره والتمسك بعقيدته والتعبير عنها أمام الملأ فأحدثت بمرور الزمن تغييراً على المستوى المجتمع الامريكي والعالم أجمع. فكان يطالب محمد علي بأن يحترمه الآخرون ليس فقط كملاكم مشهور ولكن كمواطن أسود من أصل أفريقي، وكرجل محبوب من قبل الأمريكيين، فحصل ما كان يصبو اليه، ليصبح فيما بعد رمز فخر للأمريكيين.
فالفوز العظيم الذي حققه محمد علي ليس في حلبة الملاكمة فحسب، ولكن فوزه كان أعظم خارج الحلبة. فقد وقف عندما كان الجميع قاعدون يطأطئون روؤسهم، وتكلم عندما كان الآخرون صامتون لا يجرؤون أحياناً أو يخجلون في آخرى، ولكن عاقبة مواقفه كانت بوصول رجل أسود لسدة رئاسة الحكم في الولايات المتحدة، وحصل هذا الإنجاز خلال فترة حياته محمد علي.