23 ديسمبر، 2024 12:48 ص

ملامح اولية لصورة عالم ما بعد كورونا

ملامح اولية لصورة عالم ما بعد كورونا

مرت حوالي خمسة شهور على بداية ظهور فيروس كورونا لاول مرة في مدينة ووهان عاصمة اقليم هوباي الصيني، وخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة استشرى الفيروس وانتشر على نطاق واسع، ليتحول سريعا الى وباء ثم الى جائحة، بعد ان وصل الى اكثر من مائة وخمسين بلدا في مختلف قارات العالم، واصاب حوالي مليوني شخص، وتسبب بوفاة اكثر من مائة وخمسين الف، فضلا عن تعافي ما يتعدى النصف مليون شخص.

ولاشك ان تفشي فايروس كورونا بهذه الصورة المرعبة ادى الى حدوث شلل شبه تام في مجمل حركة الاقتصاد العالمية، فضلا عن عموم قطاعات الاقتصاد الوطني في عموم البلدان التي ضربتها الجائحة، وهو ما ادى الى فقدان ملايين الاشخاص لوظائفهم، وارتباك الاوضاع الحياتية لملايين اخرى، الى جانب تعطل مختلف المؤسسات التعليمية والتربوية ومؤسسات ذات اختصاصات اخرى متنوعة، واكثر من ذلك حدوث تغيرات دراماتيكية سريعة وغير مسبوقة في انماط الحياة لمختلف المجتمعات، مع استمرار تلك التغيرات بوتيرة متصاعدة ومتسارعة ارتباطا بالاهتزازات الاقتصادية العنيفة، وسرعة تفشي وانتشار الجائحة، والعجز عن التوصل الى معالجات صحية ناجعة تساهم في الحد من ذلك الانتشار السريع.

وفي خضم تلك الاوضاع والظروف المضطربة الى حد كبير، لوحظ ان هناك اطرافا تعاطت مع كورونا من زاوية اقتصادية سياسية، وراحت تحاول تحقيق مكاسب على حساب الاخرين، وتنتقم من خصوم واعداء لها في ذروة الكارثة، بينما تعاطت اطرافا اخرى مع الكارثة من زاوية انسانية، واضعة كل الاعتبارات والحسابات والمصالح السياسية جانبا.

وكان واضحا ان الولايات المتحدة الاميركية مثلت المصداق الاوضح والابرز للنموذج الاول، ويكفينا للتدليل على ذلك ما ردده الرئيس الاميركي دونالد ترامب من تصريحات واقوال وتغريدات بعيدة عن واقع وجوهر الازمة-الكارثة.

وبحسب ما يرى البعض، فـأن “ترامب الذي وصف فيروس كورونا ذات مرة بأنه خدعة، إستمر في تجاهل خطورته رغم تفشيه الكبير في أنحاء العالم ووصوله إلى الأراضي الأميركية ما إضطره، في بداية الأمر، إلى اتخاذ إجراءات، أكد خبراء أنها جاءت متأخرة لجهة الحد من انتشار الفيروس، لكن الكارثة الموازية لتعامله الفاشل مع الفيروس لم تنحصر بشقها الصحي وتداعياتها على الأميركيين، بل تجاوزته إلى تدمير سمعة الولايات المتحدة عالميا، وخلق أزمة ثقة بين واشنطن وشعبها وحلفائها”.

ولعل ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل والاستفهام، هو ان كورونا اجتاح دولا ومجتمعات غنية ومتقدمة في المجالات العلمية والطبية والاجتماعية، في مقدمتها الولايات المتحدة واوربا على وجه العموم، بينما كان انتشاره وتفشيه في الدول والمجتمعات النامية ذات الامكانيات والقدرات البسيطة والمحدودة، اقل بكثير، رغم ان الحديث عن نظرية المؤامرة من قبل اطراف دولية كبرى، لم يتوقف منذ الايام الاولى لظهور الفايروس.

ومع ان الخبراء والمختصين يتحدثون عن جملة عوامل واسباب تقف وراء ذلك الانتشار السريع، الا ان الاستهانة بالوباء في باديء الامر وعدم تقدير الموقف بالشكل الصحيح من قبل مختلف حكومات البلدان الاوربية وانتهاج ما يسمى بنظرية مناعة القطيع(Herd immunity)، ادى الى خروج الامور عن السيطرة، على العكس من بلدان اخرى اصابها الوباء، كما هو الحال مع الصين، التي انتهجت نظرية التباعد الاجتماعي(Social distancing)، وبالتالي نجحت الى حد كبير في احتواء الوباء-الجائحة.

ورغم ان الصورة تبدو مشوشة وغامضة الى حد كبير، ويبدو انها ستبقى كذلك الى امد غير معلوم، الا ان الحديث عن عالم ما بعد كورونا بات يفرض نفسه على الواقع مبكرا، ويبدو ان جائحة كورونا ستغير خارطة التوازنات والعلاقات والمعادلات الدولية على نطاق واسع، افقيا وعموديا، ولعل هذه المحطة التأريخية المهمة والخطيرة تشبه في الكثير من تفاصيلها وجزئياتها محطة نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، ومحطة تفكك المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويبدو ان التحدي الاكبر اليوم هو امام الولايات المتحدة الاميركية اولا، واوربا ثانيا، سواء ككيان سياسي واحد متمثلا بالاتحاد الاوربي، او كدول لها ثقلهها وحضورها السياسي والاقتصادي الكبير في المشهد العالمي، في مقابل افاق جديدة تفتح ابوابها امام المارد الصيني الكبير.

ولعل وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر(97 عاما)، لم يخطأ حينما قال “ان الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة”، مضيفا، ان الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم الآن بسبب الوباء الفتاك، أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جنديا في فرقة المشاة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، حيث يسود الآن الشعور نفسه بالخطر الوشيك الذي لا يستهدف أي شخص بعينه، وإنما يستهدف الكل بشكل عشوائي ومدمر، وان قادة العالم يتعاطون مع الأزمة الناجمة عن الوباء على أساس وطني بحت، إلا أن تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود”.

ولكن استاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الاميركية ستيفن والت ذهب ابعد مما ذهب اليه كيسنجر، حينما اكد، “ان فيروس كورونا سيسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق”، وهو ربما كان يقصد تراجع موقع الولايات المتحدة الاميركية كقوة عالمية اولى وتقدم الصين لاحتلال موقع الريادة العالمية.

فضلا عن ذلك فأن هناك من يعتقد ان تداعيات كورونا دحضت وفندت العديد من النظريات التي بشر بها الغرب الليبرالي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، ومن بينها العولمة، لاسيما ببعدها الاقتصادي، فهذا كيشور محبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية الذي شغل لبعض الوقت منصب وزير خارجية سنغافورة، يقول “ان الفيروس سيسرع عملية الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة الاميركية إلى تلك التي تتمحور حول الصين”.

وهناك من يرى ان هذه الازمة ستقوم بتعديل هيكل القوى العالمية بطرق لايمكن تخيلها، وهناك من يرى ان المنتصرين في ازمة كورونا هم من سيكتبون التأريخ، في اشارة الى الصين، وانه من المرجح أن تساهم بأستمرار تدهور العلاقات الصينية الأميركية وإضعاف التكامل الأوربي.

ولاشك ان هذه ملامح اولية، ومازالت تفاعلات تداعيات واثار كورونا في بداياتها، وقد يكون العالم بحاجة الى وقت طويل حتى تتبلور وتكتمل صورته الجديدة، وتتضح معادلاته وتوازناته المحكومة بحقائق ومعطيات مختلفة عن تلك التي حكمت العالم وتحكمت به على مدى بضعة عقود من الزمن.