هناك جملة ملاحظات يمكن الاستدلال اليها عند تتبع مضامين الخطاب السياسي في العراق،وهي التي أدت في الكثير من جوانبها الى إشعال نيران أزمات وتوترات داخلية، أنعكست سلبا على الوضع الداخلي للعراق يمكن ان نؤشرها على الشكل التالي :
1. تعدد منابر الخطاب السياسي العراق وتفاوت توجهاته، بل وتناقضها أحيانا ، ما يعكس وجهات نظر متعددة في السلطة، وهو ما أفقد الخطاب الوطني السياسي المعتدل طابعه المؤثر، وراحت الأزمات تنهش في الجسد العراقي وتفتك به، نظرا لإختلاف الرؤى والتوجهات في إسلوب قيادة الدولة والمجتمع، وتباين وتناقض السياسات والرؤى التي تصل الى حد التصارع ، وربما الإقتتال، حتى بين الاخوة من طائفة أو طرف معين.
2. لقد اعتمدت الدولة،وبالأخص في رأس هرمها إسلوبا متفاوتا للخطاب السياسي ، وأحيانا إتجهت به الى حد ( التصعيد ) و ( التأزم ) وإظهرت نفسها انها في مواجهة أطراف أخرى تختلف عنها في الرؤية والمنهج، وتعدها ( هدفا ) ينبغي شن الحملات المتشنجة ضدها، وتؤدي بالنتيجة الى تشنج الأجواء السياسية وتعقد التفاهمات وايصالها نقطة اللاعودة.
3. ان واحدا من غياب أسلوب فقدان الخطاب السياسي الواضح والعلمي هو في غياب الرؤية لتحديد معالم شكل النظام السياسي ، وتبعية الاطراف السياسية للمحاور الإقليمية يجعل من الصعب بمكان، توحيد الخطاب السياسي العراقي، في ظل هذه التصارعات والارتباطات الإقليمية ، ويجعل من امر تحقيق قدر معقول من الاستقرار يكاد يكون أشبه بالمستحيلات.
4. لو أدرك الجميع ان ( التهدئة السياسية ) هي الأسلوب الأفضل لادارة الحياة ، وعدم الاضطرار الى ولوج جوانب التصعيد والاثارة واتهام الآخر، لكانت الأمور قد حلت بطريقة أقل خسارة من تلك التي تضطر قيادات في الدولة لتقديم ( تنازلات ) ما كانت لتضطر الى تقديمها، لو سلكت لغة ( العقلانية ) و ( التوازن ) و ( الاعتدال ) ولو تم تجنب عوامل التطرف والاثارة والسعي باتجاه تقريب وجهات النظر ، لما حصل كل الذي حصل في العراق من أزمات وبخاصة الاخيرة منها والتي تعد ( أزمة الأزمات ) ، حتى ليمكن للمرء أن يتوصل الى نتيجة ان ( رؤية الحكمة والتعقل ) تكاد تكون مفقودة تماما لدى كل الاطراف، ويلاحظ غياب الركون الى ( الاطراف الفاعلة ) في المجتمع وهي العشائر ووجوه المجتمع المؤثرة والفاعلة ، التي بمقدورها أن تهديء من الازمات وتحل عقدها، أو على الأقل لاتسمح لها بأن تتجه نحو الانفلات والتوتر والاضطراب، وفي ظل غياب كل هذه المعطيات يبقى الحديث عن خطاب سياسي عراقي من قبيل التمنيات والاحلام، لانه لاتوجد لغة خطاب، بل ( مناكفات ) و( مصارعات) و ( تسقيط للآخر ) واضح للعيان، ينجر به ( البعض ) به الى المستوى الذي لايمكن لأي سياسي في بلد آخر أن ينزل الى مستواه ، بعد ان يعيد إشعال نيران الشارع العراقي وتهييج كل اثارات الأحقاد والشحن الطائفي الى أقصاها، وبالتالي يكون جميع العراقيين خاسرين في المواجهة، والمشكلة ان رأس القيادة هو من يوضح ان الامور تسير بإتجاه هذه الخسارة ، دون ان يعرف أنه نفسه وآخرون إشتركوا في ترديد مقولة ما ، لدى المجتمع العراقي تحفظات عليها، هي التي أسهمت في تأجيج فصولها، وايصال الامور الى نقطة لايتمناها أي عراقي أن تصل اليه، وبالتالي تضيع الكثير من الحقوق والفرص التي بإمكانها ان تتجنب الازمات وتحبط مؤشرات اثارات الرعب لو كانت هناك ( لغة خطاب متعقلة ) تحاول قدر امكانها امتصاص( الضربات ) و( تفريغ ) شحناتها الانفعالية ، لكي لاتصل بها الى نقطة التوتر الحاسمة والانفجار والموقف المتضارب كليا، والذي لايمكن ضمن أطار ( لغة التصعيد ) أن يحصل منه أي طرف على ( مكاسب ) ، ولهذا سيكون الكل خاسرين، لأن ( مصلحة العراق ) تكاد تكون هي الغائب الاول من كل ما يجري من صراعات وتناحرات، تصل حد الاقتتال وتجييش الجيوش.
5. لم تستفد الاطراف السياسية العراقية من دروس التجارب السابقة، وتجارب دول وكيانات اخرى على مقربة منا في كردستان العراق ، في التعايش السلمي ونبذ الاحقاد،واعتمدت على الشحن الطائفي السبيل الوحيد للحصول على الكسب والولاءات الانفعالية وليست المؤمنة حقا بالتبعية والولاء، ولكن اضطر الكثيرون سلوك هذا المنهج ( الولاء الأعمى ) للركون الى من يرى فيه البعض ان لامناص منه في المواجهة، وهو مضطر اليه ومرغم على مسايرته، رغم انه في داخله لايومن به، أو يعلن رفضه له وعدم تفضيله، الا انه يبقى ( الملاذ الاخير ) لان كل الحلول الواقعية والعملية تكون غائبة، ولا تحضر سوى لغة ( الانتقام ) والحاق الضرر بالطرف الآخر، حتى لو إضطر الى تجييش القبائل والجيوش والطوائف والملل للوصول الى اغراضه في ان يكون هو الرابح الوحيد من هذه المواجهة، ولكن ما ان يستفيق من ألازمة حتى لايجد مبررا لكل هذه الاثارات من التحريض والشحن الطائفي، ولو تم حل الازمات عن طريق التفاهم والحوار لكان اجدى وأفضل بل وأسرع في الوصول الى الاهداف وتجنب تأثيرات الخسارة الى اقصاها.
6. غياب دور المثقفين والكوادر العلمية والاكاديمية والاعلامية عن لعب الدور المؤثر في رسم السياسات، أما لان الدولة وبعض قياداتها لاتريد لهم المشاركة ، أو لخشية البعض من المثقفين من ان يكون لهم مكانة، وهذا التخوف وغياب دور المثقفين والاكاديميين وشيوخ العشائر الذين يتم اعادة شحنهم، بدفع من الدولة واحزابها ، هي التي تزيد من تلك الخسارات، وتحول دون ان يحصل تقدم في البلد يسعى باتجاه الانتقالة به ال الحالة الافضل، إذ ان الكثير من السياسيين يعتاشون على الازمات سبيلا لبقاء نجمهم يلمع في سماء الإعلام ويبدون وكأنهم المحركون والقائمون على شؤون المجتمع وهم الذين يحققون له اهدافه في المجتمع، وهم يعلمون ان البحث عن ( النجومية ) و ( الاثارة ) ولفت الانظار اليهم، فيه خسارة كبيرة للبلد، لان رؤيتهم الحقيقية عن مصلحة البلد ( غائبة ) والجميع يريد ان ينهي ويسرق ويحصل على المغانم والمنجزات والمكاسب ، حتى لو راح الاف العراقيين قربانا لنزوات هذا الطرف أو ذاك، ما يجعل من امرالحديث عن ( خطاب سياسي ) متجانس من قبيل التمنيات.
7. ان دخول رجال الدين على المسرح السياسي يؤزم الوضع ويزيد من تفاقم الأمور، من كل أطراف الصراع، ولو أتخذت ( شريحة رجال الدين والعلماء ) دور ( الوسيط ) و ( التقريب ) لكان ذلك أجدى وأكثر في حل الأزمات، بدل ان يكونوا العنصر المؤثر في إثارة الغرائز وعمليات الشحن الطائفي والمذهبي، والمجتمع يريد من القيادات الدينية العليا ان تكون ( محايدة ) الى حد ما، لكن حتى القيادات الدينية العليا، كانت كلها مشاركة في الهم العراقي، في ان تكون ( طرفا ) في الازمة بدل ان تكون ( معادلة الجميع) التي تعيد ( التوازن ) كلما اختلت المعادلة السياسية او شعرت ان المخاطر ستفتك بالمجتمع ان بقيت الاحوال على هذه الشاكلة وان يكون تدخلها( إيجابي ) و( مؤثر ) وقوي ) ليس لصالح جهة ما ، ولكن من أجل مصلحة وطن تتهده الاخطار والصراعات وتفتك به المحن والالام، وعلى هذه الرموز الدينية أن تشعر العراقيين جميعا انها راعيتهم، وهي التي بإمكانها ان تعيد الامور الى نصابها، ولكن عموم العراقيين كانوا يتمنون أن تأخذ ( المرجعيات الدينية ) دورا إيجابيا أكثر قدرة على اتخاذ القرار الذي يقول للطرف الذي تشعر انه يحتاج الى النصيحة ، وانه لابد وان ينساق لرغبات الأغلبية من العراقيين وليس أغلبيات العملية السياسية ، ولا يتجه بالبلد الى المجهول، وأن يكون دور ( المرجعيات ) حاضرا بقوة في ازمة خانقة كتلك التي يمر بها العراق ، ولكن بدون ان تتصدر واجهات التعبير من خلال التظاهر، وان تكون مكانتها ( محترمة ) بين الجميع، وما سكوتها وصمتها عن أحداث كثيرة وقعت ، وكان ملايين العراقيين يتمنون لو ان ( المرجعيات الدينية ) كانت حاضرة في ضميرها معهم، لكان بالامكان تجنب الكثير من الازمات وتفريغ شحناتها.
8. المشكلة ان الخطاب السياسي في العراق يفتقد الى الكثير من مقومات ( لغة الخطاب المتعقلة ) ومن كل الاطراف دونما إستثناء، رغم ان هناك من يفرح بهذا لتجنب القاء اللوم عليه، الا انهم جميعا مساهمون بشكل أو بآخر في وصول الازمات في البلد الى هذا الحد من ( التـأزيم ) وبالتالي يحصد العراقيون وحدهم نيرات الازمات لتنقلب عليهم وبالا وثبورا.
9. لقد أظهرت الأزمة الاخيرة ان هناك شيوخ عشائر ووجوها اجتماعية ظهرت وتحدثت ونالت الاعجاب لعقلانية الطرح ولشعورها العالي بالمسؤولية وتفوقت على قيادات كبرى في الاقناع وفي أن يجد خطابها التأثير الواسع على المتلقي، وظهر انها كانت غائبة عن المسرح السياسي ، ولديها من الحكمة والحنكة والدراية وصواب الرؤية ما يفرح الكثيرين بأن في العراق رجالا بهذا المستوى من المسؤولية الوطنية، يتفوقون بها على قيادات عليا، في انها لعبت دورا إيجابيا ومسؤولا بل ومشرفا، ويتمنى العراقيون لو انها كانت في الصدارة وأرتكن اليها، لما حصل كل الذي حصل، ولكان العراقيون جميعا رابحين، وقد وضعوا حدا لأزمات، قبل ان تتقد نيرانها، لتحرق الأخضر واليابس، وأجد في حضور الشيح وصفي العاصي والشيخ حميد الشوكة والشيخ احمد الكبيسي والشيخ سالم الضباب وشيوخ آخرين بعضهم محسوبين على رجال الدين، من كلا الطرفين ، ولم تسعفني الذاكرة في استعراض أسماءهم، مايعدون نجوما لامعة، قدمت خطابا غاية في الروعة والتحليل المنطقي والرؤية الثاقبة، كما ان النائب المستقل والسياسي المخضرم المحنك حسن العلوي قد ابدع كثيرا في هذا المجال.
10. البعض من القيادات الحاكمة انخرط في لعبة ( التأجيج الطائفي ) خلال فترة انتخابات مجالس المحافظات ، وربما كانت الحملات الدعائية قبل بدء الانتخابات بأيام، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وأدت الى إثارة أكبر أزمة في تاريخ العراق المعاصر، نجم عنها مانجم من تحريك كل عوامل الاحقاد والضغائن، لتنتقل بالعراقيين الى الحالة التي لايتمنون ان يصلوا اليها، وقد إشتعل فتيل أزمة كادت تحرق الأخضر واليابس كما يقال.
11. أن أهم ما يغيض الكثير من العراقيين هو إجترار اتهامات بالجملة على كيانات عراقية، بأن تتجه لغة الخطاب السياسي اليومي الى الصاق مختلف التهم بها مثل ( القاعدة ) و ( البعث ) وما الى ذلك من الترويجات التي أصبحت تنغص حياة العراقيين، وتجعل الكثيرين منهم في دائرة الاتهام ، وهو من أكثر ما يؤلم العراقيين في ان يبقى ( البعض ) يجعل من تلك الاتهامات وسيلة للإدانة ضد الكثير من العراقيين، بغير وجه حق، ما أفقد لغة الخطاب السياسي العراقي العقلانية والمنطقية، حتى ان أكثر ما يؤدي الى ان يقزز قطاعات واسعة من شعب العراق، ان يتم توجيه اتهامات جماعية لها، واتخاذ الاعتقالات ونزع اعترافات مفبركة وسيلة لادانات غير أخلاقية، وهي التي أدت الى تأجيج الشارع العراقي، وإيقاد نيران أزمة، أتعبت العراقيين،حتى انهم لعنوا كل من تسبب في إيقاد لهيبها، وقد أحرقت أجساد العراقيين، وفتكت بكياناتهم، وأدت الى خسارة العشرات من ناس أعزاء من شباب ورجال ونساء واطفال وشيوخ ورجال دين،وبالتالي كانت من نتائجها ان لحقت بالعراقيين جميعا خسائر فادحة.
هذه ملاحظات مهمة ، أشرت جوانب الخلل الكبير في الخطاب السياسي العراقي، وكانت توجهاته سببا لإشعال نيران أزمات، ولو تم تفادي الكثير من الخطابات غير العقلانية، والإتجاه نحو التهدئة ، لما وصلت الامور الى هذا المستوى من التدهور على أكثر من صعيد.