مما قاله ألامام علي بن أبي طالب بحق أصحاب ثورة المدينة المنورة التي قتل فيها الخليفة عثمان بن عفان :
” جزعوا فأساءوا الجزع ”
وما نقوله عن أصحاب فكرة ” البراءة من الطائفتين ” أنهم جزعوا فلم يستبينوا الصواب ” .
وستكون ملاحظاتنا فكرية لآن أصحاب الفكرة سموا أنفسهم بالمفكرين والمثقفين , وهذا مما يسهل علينا أسلوب البيان .
بادئ ذي بدء أحب أن أذكر : أننا جميعا ضحايا الغلو والتطرف الذي أصبحت له جهات كثيرة ومصادر متنوعة , يجمع ذلك التطرف والغلو الجهل الذي تحكم بالعقول , والمرض الذي خالط النفوس , ولهذا قال تعالى :” ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيئ قبلا ماكانوا ليؤمنوا ألا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ” – 111- ألانعام –
وألانبياء الذين واجهوا الجهل وعانوا منه ماعانوا , لم يعتزلوا الناس والمجتمع , لآنهم أصحاب رسالة للناس , لايثنيهم عن رسالتهم كثرة المعرضين ” وأن تطع أكثر من في ألارض يضلوك عن سبيل الله , أن يتبعون ألا الظن وأن هم ألا يخرصون ” – 116 – ألانعام –
وأنقسام الناس الى طوائف ليس بألامر الجديد قال تعالى :” وقالت اليهود ليست النصارى على شيئ , وقالت النصارى ليست اليهود على شيئ , وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لايعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون “- 113- البقرة –
والبراءة تطلق على الندم من مطلق الفساد وألانحراف قال تعالى ” وقال الذين أتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ” – 167- البقرة – والطائفتان اليوم من السنة والشيعة لايصدق بحقهما مطلق الفساد وألانحراف حتى تصبح البراءة منهما صحيحة , وأنما هناك غلو في هذا الطرف أو في ذاك , وهناك خطأ من هنا وخطأ من هناك في الممارسة والتطبيق , وليس في أصل الفكرة التي يعتنقونها من حيث التوحيد بالله , والنبوة , والمعاد ” الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون _* والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبألاخرة هم يوقنون “- 3-4- البقرة .
لذا فليس من حق المثقفين أن يتبرءوا من الطائفتين مطلقا , ولكن من حقهم أن يتبرءوا من الخطأ الذي يشمله ” التطرف والغلو ” ونحن معهم , بل نحن قبلهم ممن دفع الضريبة كما قال العلامة الزمخشري في القرن السادس الهجري :-
فأقصاني زماني وقدم معشرا … هم لايعلمون وأعلم ؟
فالبراءة فكرة غير صائبة في ما نحن فيه , والمحاولة هي أقرب للفكرة , وليس للمبادرة , فالفكرة تحتمل الصواب والخطأ , والمبادرة مشروع تجاوز الخطأ بعد دراسة مستفيضة , وهذا لاينطبق على فكرة بعض المثقفين التي ولدت في فراغ فكري ظهر واضحا أنه لاينتمي لهوية وجودية في الفكرة , وأنما يصادر الفكر لصالح مطلق الوجود البشري وهذا خطأ يجهض محاولة بعض المثقفين العراقيين الخروج من فضاءات الخطأ وحاضناته ليقعوا في فضاءات لاتقل خطورة في عدميتها من غيرها مما ينطبق عليهم قاعدة :” أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ” ؟
والفراغ الفكري عند هؤلاء المثقفين ظهر جليا في مطالبتهم بأن تكون لهم طائفة جديدة غير الطائفتين ” ويعنون بهما السنة والشيعة ” وأذا كان هذا المسعى من باب الحرية في الرأي , فلهم ذلك على قاعدة ” لا أكراه في الدين ” ولكنهم سيواجهون مصاعبا تصل الى حد ألاستحالة , فالدين له أنتساب للفطرة وقيمومة عليها وعلى مايرتبط بها من زمان ومكان ” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون “- 138- البقرة –
ولقد حدد المثقفون أنفسهم بتاريخ لايوافقهم عليه سير ألاحداث في عالمنا ألاسلامي المرتبط بظهور الخلافات بين ألاطراف المختلفة , فألالف سنة التي ذكروها , أن كانوا يعنون بها أحداث ” كرخ بغداد ” حيث قام الغوغاء بتحطيم كرسي الكلام ونهب مكتبته عام 436 هجرية , نتيجة الشغب الطائفي , وهذه الحوادث لم تكن سوى سلسلة من التداعيات وألارتدادات التي تقف ورائها ألانقسامات الفكرية التي أختصرتها مقولة من قال : أذا كان لبني هاشم النبوة , فلتكن لقريش الخلافة ” وهي مقولة غير مسترشدة بقانون ” ألاصطفاء ” أن الله أصطفى أدم ونوحا وأل أبراهيم وأل عمران على العالمين ” – 33- أل عمران – “ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ” – 34- أل عمران – ولقد أشار القرأن بوضوح لايقبل التأويل والتحريف الى وقوع ألانقلاب ويعني به ألاختلاف عندما قال : ” وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم …” .
وأذا كان أصحاب فكرة البراءة يرون أنفسهم غير معنيين بمثل هذه ألاستدلالات , فلهم ذلك , لكن بعد أن يتخلوا عن مصطلح المفكرين والمثقفين الذي تناقلته بعض المدونات , وعقدت بعض فضائيات التحريض لقاءا مع بعضهم .
والخطأ ألاخر الذي يسجل من ناحية فكرية على ماذهب اليه أصحاب فكرة البراءة من الطائفتين :هو تخليهم عن مفهوم الفكرة السامية لصالح مطلق وجود ألانسان : وهذه أشكالية معرفية تختصر كل الفراغ الفكري الذي تمخضت عنه هذه المحاولة , وفحوى هذه ألاشكالية أنها لم تأخذ بعين ألاعتبار جوهر ” الفكرة ” وأثرها في حياة ألآنسان , ونسيت حتى مقولة بعض الفلاسفة الغربيين عندما قال :” أنا أفكر فأنا موجود ” أو كما قال مجدد نظرية المعرفة الشهيد محمد باقر الصدر عندما قال :” الفكر نشاط أيجابي فعال للنفس ” وذلك في معرض مناقشته فلسفة ألاعتقاد مع “دافيد هيوم” وصاحب ألانعكاس الشرطي “بافلوف ” .
وأذا غادرنا هذه المحطات الفكرية التاريخية , فأننا لايمكن أن نتخلص من حضور التفاوت العقلي والثقافي عند الناس بسبب أعتقاداتهم وعاداتهم التي لاتنفك عن ألانتساب لفكرة سلبية أو أيجابية , فالمشهد الحياتي زاخر بكل أنواع الطيف البشري الذي يتمايز بالفكر سموا وهبوطا مثل :-
ألانبياء
المصلحون
العلماء
المفسدون
المثليون
المنافقون
الطغاة
الجاهلون , وغيرهم
وهذه ألاصناف موجودة في الطيف البشري والتفاضل بينها يكون بالفكر من حيث الجودة والنقاء , فالفكر هو جوهر الوجود , وعليه تعتمد مشاريع ألآصلاح وبرامج التنمية , فكيف يحق لمن يريد أن يكون صاحب فكرة أن يتخلى عن سلاحه , ألا يكون مثله كمثل من يريد أن يسبح في البحر قبل أن يتعلم السباحة ؟ , أو كمن يريد أن يدخل معركة بدون سلاح كما قال الشاعر :-
كساع الى الهيجا بغير سلاح ؟
نعم للوجود ألانساني حرمة وكرامة , ولكن بعد أن يتسلح بالفكر , وبدون الفكر يكون كذلك الذي وجدته الملائكة يصلي في جزيرة سنوات طويلة ,فسألوا جبرئيل عن درجة هذا الرجل عند ربه , فصحبهم الى جزيرة الرجل , وسأله جبرئيل قائلا :بماذا فكرت طيلة وجودك في هذه الجزيرة تعبد ربك ؟ قال الرجل :فكرت لماذا لايخلق الله حمارا ليأكل عشب هذه الجزيرة ؟ فأومأ جبرئيل للملائكة وطاروا ,فقال لهم :قيمة هذا الرجل عند ربه بقيمة عقله ؟
فلا يجوز تقديم مطلق البشر على الفكر لاسيما الفكر الذي يرتبط ببوصلة السماء ” قل لو كان في ألارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ” وهذه هي حتمية علاقة ألارض بالسماء من خلال الفكر ,فالفكر الصحيح مقدم على الوجود غير الممحص للبشر .
رئيس مركز الدراسات وألابحاث الوطنية
[email protected]