22 ديسمبر، 2024 8:17 م

ملاحظات عن بعض فنون المقالة الصحفية

ملاحظات عن بعض فنون المقالة الصحفية

قرأتُ، اليوم، مقالتين لأستاذين أكاديميين، اقتصرتْ افكارهما وتركز موضوعيهما  على شخصية الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء العراقي. الأولى مقالة الدكتور قاسم حسين صالح المنشورة في جريدة المدى 17 – 1 – 2016  ..الثانية بقلم الدكتور جاسم  الحبجي الاستاذ في جامعة البصرة  المنشورة في جريدة الزمان . ليس في المقالتين أي شيء مشترك غير مزيتيهما المتعلقتين برئيس الوزراء، ليس في المقالتين أي أسلوب رمزي ولا أي بحث في السياسة وادارة الدولة  مباشرة .

ببساطة أقول أن مقالة الدكتور قاسم حسين صالح ، رئيس الجمعية النفسية العراقية، كانت في منتهى الروعة والعلمية استناداً إلى اسلوبٍ استطلاعيٍ ذكيٍ قدّم خلاصته بمعانٍ كثيرة عن فضائل أخلاق الرئيس العبادي وعن أوصافه السياسية والادارية ، التي وصمته آراء المستطلعين بالضعف الشديد وبعدم القدرة على ممارسة (الأفعال). أقف أمامها وأمام كاتبها بإجلال وتقدير إذ قدّم فيها عرضاً على أحسن وجه و أوضح صورة علمية  نتيجة تجربته العميقة،  التي تقدم للقراء  ،دائماً، قيمة موضوعية مضافة.

هنا لا أريد الدخول بمقارنة المقالتين ببعضهما، لأنني لم أجد أي مجال للمقارنة  بينهما ، حيث  وجدتُ مكانة واسلوب وتفكير وكتابة الدكتور قاسم حسين صالح تنتمي الى طرازٍ عالٍ  من مستويات الأكاديميين، العلماء، المتفوقين. لا شك وجدته معلماً حكيماً يحترم اللغة والعلم وحقهما في تكوين الصدى المطلوب في الرأي العام، لا يمكن ،بأي حال من الأحوال، مقارنة مقالاته  بكتابات الاكاديمي في جامعة البصرة الدكتور جاسم الحبجي المتسمة بآراء صحفية شائعة لا تملك قدرة التأثير على الرأي العام.

كتب الدكتور جاسم الحبجي مقالته بعنوان ( العبادي وجامعة البصرة) تناول فيها (خاطرة) عن زيارة الدكتور حيدر العبادي ، خلال الاسبوع الماضي، إلى مدينة البصرة. صُدمتُ حقاً، من الناحية الصحفية، بهذه المقالة المنشورة ،في جريدة الزمان – طبعة العراق – التي يرأس تحريرها الصديق القدير أحمد عبد المجيد، الذي لا اعرف كيف مرّت عليه مقالة فيها درجة من التشوش والارتباك والسذاجة ، لتأخذ مكانها في إحدى صفحات جريدته  المعروفة بحصانتها الصحفية وحصافتها  اللغوية في ما ينشر على صفحاتها من كلامٍ أدبي أو سياسي أو اقتصادي.

لا أريد المناظرة والحوار، هنا، إذ يصعب تحديد معالم مقارنة بين اسلوبين مختلفين لا يلتقيان، بين الاكاديمي الأول قاسم حسين صالح، والاكاديمي الثاني جاسم الحبجي لبعد المسافة بين مستويين وثقافتين ونوعين من قلائد الكتابة الصحفية – العلمية عن شخصية واحدة تحتل رئاسة مجلس الوزراء. لكنني أجد من المناسب أن اسلك مسلك الصحفيين الحريصين على مآثر الصحافة العراقية، التي حرصت منذ نشأتها الأولى على أن تنشر ما يستحق النشر وترفض ما لا يستحق، حتى وإنْ كان كاتبه بمرتبة استاذ اكاديمي.

كما أرجو أن يتفضل الدكتور جاسم الحبجي بالسماح لي لبيان وجهة نظري  بأسلوب مقالته المشار إليها ،  ضمن  مقومات الكتابة الصحفية في زمان  نطالع فيه،  مقالات فذة  في الصحف العربية – ولا أقول الأجنبية –  وهي تحمل خصائص حريصة على مستوى صحافة القرن الحادي والعشرين . هذا الأمر دفعني إلى قراءة بعض مقالاته الأخرى   بجريدة الزمان الغراء إذ وجدتُ فيها (خطأ بين كل خطأ وآخر)  مما لا ينسجم مطلقاً مع دور ومكانة استاذ يشرف على رسائل الماجستير واطروحات  الدكتوراه . هذا ذكّرني بما قاله  الراحل الواسع الأفق، الدكتور  مصطفى جواد، في برنامجه الإذاعي الشهير (قل ولا تقل) حيث ذكر بألم : (( ومن اشد الرزايا التي نزلت بالعربية، أيضاً، أن اساتذة في التاريخ والجغرافية والعلوم لم يتعلموا ما يصون اقلامهم وألسنتهم من الغلط الفاحش واللحن الفظيع، وإذا عوتبوا أو ليموا – وهم مليمون حقاً – قالوا نحن ندرس التاريخ والجغرافية والعلوم ولا يخجلون من هذا الاعتذار ، مع انهم اصبحوا سخرية الساخرين وضحكة الضاحكين ..)).

لكي تكون ملاحظاتي معتمدة على الاستقصاء والدقة وذات قيمة صحفية فأنني أسجّل النقاط التالية على مقالة السيد جاسم الحبجي  باعتبارها نقاطاً تسلط الضوء على نوع من كتابات  ليس فيها قيمة علمية بمستوى رأي اكاديمي – جامعي ، كما ليس فيها قيمة صحفية مؤثرة على الرأي العام .

(1)    بدأ الدكتور الحبجي  في السطور الأولى من مقالته ( العبادي وجامعة البصرة) بمعلومة بدهية يعرفها القاصي والداني، بعبارة أو بتعبير متكرر، سابقاً، آلاف المرات، عن أهمية وأدوار الجامعات لبلدانها ومجتمعاتها،   ،من دون أن تكون عبارات الدكتور الحبجي ضرورة لمقالة أراد  – كما يبدو – أن تكون محركاً فكرياً ، علمياً ، منهجياً ،  في شأن من شئون الحاجات الجامعية . لم يقدّم الدكتور الحبجي بمقالته  أفكاراً جديدة للقراء  ، كما لم يقدّم   اقتراحاً  قادراً على  جعل جامعة البصرة معنية – مثلا – بدراسة تجديد أو تطوير بعض الفروع العلمية أو الزراعية أو الصناعية أو النفطية أو في آداب الرحالة البصريين أو المعنيين بالأدب العربي ولهجاته وغيرها.. لكنه اقتصر في مقالته على تقديم عتاب مجرد  لرئيس الوزراء لعدم قيامه بــ(زيارة) جامعة البصرة في أثناء زيارته الأخيرة إلى مدينة البصرة، كما لو كانت هذه الزيارة – بنظره –  قادرة على خلق المحرك الفكري – العلمي – المنهجي حالما يقف الرئيس العبادي وسط ساحة الجامعة ضاماً قدميه على أرضها متحدثاً بخطاب سياسي تلقيني  إلى أهلها كما عوّدنا في كثير من المناسبات.

(2)    فرضية الدكتور الحبجي، بمقالته ، تعني أول ما تعني أن جامعة البصرة ليست سوى مضيف عربي لاستقبال الوزراء والمسئولين الكبار في الدولة العراقية وهي نوع من زيارات لا ينتج منها – كما هو معروف –  أي عطر غير مهرجان الهتافات والتصفيق للزائر الكريم من قبل الاساتذة والطلبة تنتهي، عادة، بوليمة كبرى في هذا المضيف (قوزي أو كباب عراقي أو تمن وقيمة ). لم يشر صاحب الدعوة للزيارة في مقالته إلى أي مشروع يتوخّاه من الزيارة لترقية بعض فروع الدراسة في الجامعة أو كلها . كان بإمكانه أن يقدمه ضمن مقالته، على الأقل .

(3)    الشيء الغريب  أن مقالة الدكتور جاسم الحبجي المشار اليها مثل  مقالاته السابقة ، التي قرأتها في جريدة الزمان، تبدأ منذ السطر الأول وتنتهي بالسطر الأخير من دون أن يشملها بأي علامة من (علامات التنقيط ) أو (علامات الترقيم) ،التي كان الراحل الدكتور مهدي المخزومي قد بيّن أهميتها في مناسبات مختلفة موضحاً أن  كتابة اللغة العربية بلا (ترقيم) يعني كأننا  نعيش في عصر ما قبل التنقيط، أي في العصر الجاهلي..! في مقالات الدكتور الحبجي  لا توجد نقاط ولا فواصل ولا علامات استفهام ولا اقواس، كأن المقالة جملة واحدة فقط ،مهما كان طولها (صفحة واحدة)  أو (عدة صفحات) .  ما أثار استغرابي أن مقالته  شعّت في ختامها بعلامة تنقيط غريبة ،جديدة ، ضمت أثنين من علامة الاستفهام واثنين من علامة السؤال وضعهما ،معاً، جنباً إلى جنب (!! ؟؟) .  أغرب علامة من (علامات التنقيط) شاهدتها في حياتي. .

أنا شخصيا لم اتشرف بلقاء  الدكتور جاسم ولم أكن مستمعاً لمحاضرة من محاضراته في أي يوم من الأيام ، لا في جامعة البصرة ولا على شاشة التلفزيون.. ولا أدري هل يتجاهل قواعد النحو والصرف عندما يتحدث لمستمعيه مباشرة على مقاعد الدراسة..؟

(4)      من الملاحظ أن الدكتور الحبجي  كتب في مقالته  ( لم نرى) متجاهلاً قواعد الجزم في لغتنا ، كما كتب الفعل (يأن ) بدلاً من (يئن) متجاوزاً أصول كتابة الهمزة، واستخدام (تهفوا) بدلاً من (تهفو)  . كما أخطأ باستخدام (الذي ) للجمع بدلاً من (الذين).. كما استخدم كلمة (التواجد) في غير محلها  بمقالته .   مما يعني أنه بحاجة الى لغة عربية – صحفية اصوب وأعمق وأعم إذ لا نعتبره نحن الصحفيين من اصحاب اللغة الادبية الصحفية ما لم يتقن شيئاً – بسيطاً جداً –  من لغة زملائه من اهل البصرة مثل الجاحظ والفراهيدي ومحمود عبد الوهاب وكاظم الحجاج واحسان وفيق السامرائي وبدر شاكر السياب والاصمعي  وإلاّ فأن مقالاته سوف لن تضيف حرفاً واحداً، لا إلى وعي الناس البصريين، ولا  إلى إرث الأدب البصري المعروف بالعبقرية اللغوية.

(5)    الصورة الجامعية  رسمها الدكتور الحبجي في مقالته كأن الجامعة (مكان مقدس)  وربما أراد أن يقول (إن الأساتذة فيها مقدسون)،  بينما في عقول الساسة الواعين والمفكرين الكبار أن مثل هذه الصورة مشوّهة .الجامعة وُجدتْ وتطورتْ وتغيرتْ منذ العصور القديمة ،حتى الآن، لأنها بالأساس أرقى مؤسسة ديمقراطية تبحث عن (الحقيقة ) وتخضع الى (الجدل) وتدقق فيها لتتوصل إلى معالم جديدة لأن قاعاتها ومختبراتها وتاريخها ونظامها وعاداتها وطبيعتها  ومجلاتها ودراساتها ،كلها، تقوم على الحوار والجدل مما يعود بالخير، أولاً، على اساتذتها وطلبتها ومن ثم انعكاس تياراتها النيّرة  على المجتمع، كله، أي ليس في الجامعة ( دور مقدس) لا يجوز تقليبه أو تغييره منذ افلاطون وارسطو حتى قيام جامعات اكسفورد وهارفرد وطشقند وموسكو وباريس ولايدن. الجامعة كانت ولا زالت من أهم عوامل انتشار الآداب والعلوم والفنون واغنائها بالتجديد الفكري إذا كان الطلبة يقصدونها ،كما معروف، لدراسة كيفية تطوير المجتمع والدولة والناس وإذا كان مستوى اساتذتها صائباً في الصميم، وإذا كانت  قدرة الاساتذة الجامعيين على الكلام والكتابة من دون التجاوز على أصول وقواعد لغتهم ذات الخصائص القادرة على أن تحافظ على (الحقيقة)، التي كثيراً ما تكون غائبة أو صعب الوصول إليها.

أخيراً أعيد ،هنا، ما قاله كولن ويلسون:  ( الإبداع ليس سراً مقدساً). إنه أساس القدرة على التعبير بلغة سليمة، جذابة، راقية، جميلة ، حساسة  ، دقيقة، قادرة على خلق الحالة المكمّلة لما يكتبه الكتّاب وهو اجتذاب القراء  ،  لتحقيق مزيد من الوعي بقصد اكتشاف (حقائق جديدة ) تساعد في تقديم (اسئلة جديدة) كما قال سقراط.