23 ديسمبر، 2024 10:54 ص

فجأة وبدون سابق إنذار مثل التسونامي ، أتتنا موجات تلو آخرى من المطربين ومرتدي العمائم والسياسـيين ، اطلوا علينا من على شاشات القنوات الفضائية النابتة مثل الحشائش بعد المطر ، واغرقونا بغناء لا علاقة له بالطرب ، وبفتاوى غامضة غريبة لا علاقة لها بالدين ، وبتحليلات سياسية بعيدة كل البعد عن الواقع السياسي العربي اليومي ، فصار الكثير من الناس يتفرجون على مباريات كرة القدم وبعض القنوات العلمية عند الضجر ، أو يتركون التلفزيون مغلقاً اغلب ساعات اليوم .

* لايعلم احد اين تعلم مطربونا الغناء ، في أي مدرسة أو في أي معهد ؟ ، ولا تستغربوا إن اكتشفتم إن ثلثي المطربين وربما نصف الملحنين (العراقيين خاصة) لايعرفون قراءة النوتة ، لأن التهريج الغنائي الذي يقدموه بعيد كل البعد عن الذوق والاحساس الفنيين . غناء المطربين العرب يذكرني بصياح الباعة في سوق الخضار ، لكنهم استبدلوا كلمات خيار طماطة بيتنجان بكلمات شوق سهر حب ، بدليل إنهم لايتفاعلون مع الكلمة والعبارة ، ولايغيرون نبرة الصياح لديهم لتتوافق مع الكلمات أو الجمل الموسيقية ، وهذا طبيعي فهم يغنون اصلاً للسكارى قبيل منتصف الليل .

* يستطيع خريج أي معهد ديني أن يزعم معرفته بتفسير القرأن والحديث ، ولكن هل إن جميع طلبة المعاهد الدينية قد فهموا المنهج الدراسي واستوعبوا  محتوياته ؟ ، أم إنهم مثل طلبة المدارس والمعاهد الاخرى الذين  تحولوا الى ببغاوات يحفظون المنهج قبيل الامتحان وينسوه بعده ؟؟ .

إن علوم الفقه واللغة والتفسير والحديث بحار واسعة وتحتاج لملاح ماهر للأبحار فيها ، ولايجوز لقناة فضائية تحترم جمهورها أن تستضيف كائناً من كان وتدعي إنه عالم دين ، ثم تسأله وتستفتيه أو تسمح له بالحديث عن الفلك أو الاقتصاد أو السياسة ، فتلك مواضيع من خارج نطاق دراسته ولا تدرس في المعاهد الدينية .

 لكل علم رجاله المختصون به ، وإذا كان لدينا عالم متبحر مثل محمد متولي الشعراوي يستطيع تفسير الظواهر الطبيعية حسب الآيات القرآنية ، فليس كل من ارتدى العمامة صار الشيخ الشعراوي وبدأ بتفسير القرآن أو رواية الحديث . ومن العيب على رجل الدين التكلم بأي شأن سياسي مطلقاً ، فالسياسة من شؤون الدنيا وليست من امور الآخرة . 

الكثير من معممي القنوات الفضائية يستخدمون آيات في غير مواضعها ، أو يفتون حسب هوى المحطة والقائمين عليها ، فيحرمون أو يحللون المتشابهات التي كان يتجنب الحديث عنها كبار الصحابة لهوىً في انفسهم ، أو يتشددون فيما تساهل به الله ، أو يتساهلون فيما شدد الله على حرمته ، واكبر دليل على عدم فهمهم بالشؤون الدينية هو رفضهم الآخر والانتقاص منه ومن كتبه والتحريض على كراهيته ، وكأنهم لم يقرأوا ولم يستوعبوا معنى آية { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين / الآية 125 من سورة النحل } ، مع العلم إن هذه الآية نزلت على رسول الله (صلعم) في شأن المشركين والكافرين بالله واليوم الآخر ، فاذا كان الله قد طلب من رسوله استعمال الحكمة والموعظة الحسنة  مع المشركين ، فاستعمالها مع المسلمين اوجب واولى ، فعلى الاقل المسلم قد شهد الشهادتين وآمن بالملائكة واليوم الآخر ، وإن كانت طائفة من المسلمين قد عصت أو ضلت فالواجب الديني يقتضي منا دعوتها للهدى لا أن نلقي حطباً فوق النار ، في حين إن الكثير من المعممين في الفضائيات يحرضون ويدعون للفتنة لأسباب سياسية وعشائرية لا علاقة لها بالاسلام . 

* اما المحللون السياسيون الذين يطلون علينا بوجوههم الكالحة ، فهم اصلاً مجموعة من العواطلية الفاشـلين في اعمالهم ، واغلبهم لم يدرس شيئاً عن السياسة أو الاقتصاد ، أو بالكاد نجح من الكلية بدرجة مقبول ، ولا ادري اين درسوا التحليل السياسي أو الاستراتيجية ، وهم مستعدون لتغيير مواقفهم وارائهم حسب سياسة القناة التلفزيونية التي تستضيفهم ، وذلك لكي تستدعيهم وتدفع لهم مرات تلو آخرى . بالمقابل هناك كتاب واساتذة عرب مختصون بالتحليل السياسي والاقتصادي ، ويعتمدون على كمية كبيرة من البيانات والاحصاءات قبل الخروج على الناس برأي او نتيجة ، وغالباً ما توظفهم أو تستعين بخبراتهم معاهد وكليات اجنبية لعمل دراسات سياسية أو اقتصادية ، في حين تتجنب القنوات الفضائية العربية الاستعانة بهم ، لأنهم سيكشفون عورات الانظمة العربية وعيوبها امام العامة ، وهذا ما لاترغب به القنوات الفضائية العربية ، إذ إنها قنوات مدعومة من قبل انظمة واحزاب ومنظمات غالباً ماتكون فاسدة ومفسدة في الارض .

* المطربون والمعممون والمحللون الاستراتيجيون ينبتون ويتكاثرون بسرعة هذه الايام مثل خضراء الدمن ، وكأن هذه الحرف قد صارت مهنة من لامهنة له ، ولكي لا نستعمل المثل العراقي ( ال ما عنده شغل … ) نذكر شبيهه المصري الذي يقول ( اللي فاضي يعمل قاضي ) ، أي العاطل عن العمل يتدخل في شؤون الناس وكأنما نصبوه  قاض عليهم فهو يحاسبهم عما فعلوه ، والمفروض أن يصبح المثل اليوم وباللهجة العراقية ( ال ماعنده شغل  يشتغل دمبكجي ) أي مطرب أو سياسي .

* السياسيون لدينا في العراق نوعان ، أما ممثل ناجح ذو لسان لبق ومستعد أن يفيد ويستفيد ، أي يختلس ويرشي ، وتقف من خلفه عشيرة تسانده وتصوت لصالحه وصالح حزبه ، فيصعد في دنيا السياسة ويرتفع نجمه حسب قوة عشيرته وقدرته المالية على الدفع لبقية الشركاء ، وأما ممثل فاشل لأنه فقير أو ليس له عشيرة قوية ، فيتحول الى كاتب مقالات ومحلل ستراتيجي ويبيع كلاواته وموهبته الوهمية على القنوات الفضائية . ويبدو لي  إن الكثير من السياسيين والمحللين الاستراتيجين والكتاب يتهربون من عقدة اصيبوا بها حسب نظرية الدكتور ادلر (وهو من كبار علماء الطب النفسي بعد فرويد) ، ونظريته تقول (إن كل إنسان يحاول التهرب من عقدة النقص الموجودة لديه) . فمن يحس في داخل نفسه بالغباء يحاول ايهام نفسه وايهام الآخرين بأنه فلتة زمانه في الذكاء والعبقرية ، ومن يحس بأنه ضعيف يتمرن في ناد رياضي لتقوية عضلاته ثم يدعي القوة البدنية ، ومن يشعر بأنه جاهل ينمي قدراته اللغوية ويحاول تثقيف نفسه ثم يستخدم مصطلحات عجيبة غريبة ليوهم الآخرين بسعة معرفته واطلاعه ، وعلى اساس هذه النظرية يصبح ذوي الاصوات البشعة مطربين ، وذوي الادمغة المتحجرة الذين لايعرفون الف باء السياسة سياسين ومحللين استراتجيين ، ويظهر إن اقل الناس تديناً أو اقلهم فهماً للدين الاسلامي يدعون الورع والتقوى فيصبحون دعاةً اسلاميين على القنوات الفضائية .