في الايام الاولى من وصولنا الى موسكو خريف عام 1959, تنزهنا في شوارعها بالطبع واطلعنا على معالمها بدهشة, وتوقفنا عند ( بولشوي تياتر) ( المسرح الكبير) في مركز المدينة, وعبرنا الشارع المحاذي له وتوقفنا عند ( ماللي تياتر ) ( المسرح الصغير ) وتأملنا التمثال الفخم القائم عند مدخل ذلك المسرح , وهو للكاتب المسرحي الروسي الكبير الكساندر نيقولايفتش استروفسكي ( 1823- 1886),ابو الادب المسرحي الروسي ,او شكسبير روسيا كما يسمونه ( انظر مقالتنا عنه بهذا العنوان والمنشورة في عدة مواقع) والذي لم نكن نعرفه ولم نسمع عنه آنذاك, وعندما قرأنا الاسم على قاعدة التمثال اعتقدنا انه للكاتب السوفيتي نيقولاي الكساندروفيتش استروفسكي ( 1904 – 1936) , والذي كان البعض منٌا قد سمع بشكل او بآخر عن روايته المترجمة الى العربية وعنوانها ( والفولاذ سقيناه , او/ كيف سقينا الفولاذ ), وهي رواية تمجد البطولة السوفيتية بعد ثورة اكتوبر 1917 واحداث الحرب الاهلية التي اعقبتها , والتي صدرت عام 1932 واصبحت رواية سوفيتية مشهورة جدا وترجمت الى العديد من اللغات الاجنبية ومنها لغتنا العربية والتي قدمها الماركسيون في العالم العربي على انها احدى النماذج الجديد ة للادب السوفيتي , ولم يخطر ببالنا ابدا, ان هذا التمثال يقف منذ القرن التاسع عشر, اي قبل قيام ثورة اكتوبر ودولة الاتحاد السوفيتي اصلا, وانه لا يعبٌر عن مضمون تلك الرواية لا من قريب ولا من بعيد كما يقال, اذ كان هذا التمثال يجسد رجلا ضخما متقدما في السن يرتدي اجمل الملابس وينظر متأملا بعمق و يجلس على كرسي مهيب , ويوجد على قاعدة التمثال اسم استروفسكي ليس الا,اما نيقولاي الكساندروفيتش استروفسكي مؤلف رواية ( والفولاذ سقيناه) فانه كان رجلا مريضا ونحيفا ومنهكا وعاش 34 سنة لا اكثر, ولا زلت اتذكر لحد الآن الانطباع الهائل والقهقهة المدوية للاصدقاء الروس ( بعد سنين طويلة من ذلك الحادث طبعا) عندما علموا باننا توهمنا بين استروفسكي الكاتب المسرحي الروسي في القرن التاسع عشر وبين استروفسكي الكاتب السوفيتي في القرن العشرين , وكل ذلك قد حدث بسبب تشابه الاسمين طبعا , وبسبب سذاجتنا ايضا.
وعندما بدأنا دراستنا في القسم الروسي بكلية الاداب في جامعة موسكو اكتشفنا ان ليف نيقولايفتش تولستوي ( 1828-1910) مؤلف الرواية العظمى – ( الحرب والسلم) والروايات والقصص المعروفة الاخرى هو ثاني تولستوي في الادب الروسي , وان هناك تولستوي آخر سبقه في دنيا ذلك الادب واسمه الكامل اليكسي كنستونتينوفيتش تولستوي ( 1817-1875) وهو شاعر وروائي وكاتب مسرحي بدأ بالنشر منذ عام 1840, اي عندما كان تولستوي الثاني لا زال طفلا, ويعد تولستوي هذا من الادباء الروس الكبار ولا زالت نتاجاته ( من شعر وقصص و روايات ومسرحيات ) معروفة للقارئ المعاصر, بل ان بعض قصصه قد تحولت الى افلام سينمائية, علما انه كتب بالروسية وبالفرنسية ايضا , ولا يعرف القارئ العربي عن هذا الكاتب الروسي شيئا تقريبا, رغم اهميته ومكانته في عالم الادب الروسي واتمنى ان تسمح ظروفي بتقديم تعريف معمق لابداعه .وبعد ذلك اكتشفنا تولستوي آخر , اي ثالث, وهو اليكسي نيقولايفتش تولستوي ( 1882- 1945) الكاتب الروسي المخضرم, الذي ولد وعاش في الامبراطورية الروسية واصبح اديبا معروفا فيها , ورفض ثورة اكتوبر البلشفية وترك دولة الاتحاد السوفيتي وسافر الى الخارج مع موجات المهاجرين المثقفين الروس آنذاك , ثم عاد فيما بعد الى الاتحاد السوفيتي بعد خيبة امله بالمهاجرين الروس , واصبح واحدا من المع الادباء السوفيت, بل كاد ان يكون الاسم الاول بين هؤلاء الادباء آنذاك ( بعد موت مكسيم غوركي عام 1936), ويعرف القارئ العربي هذا الاديب بشكل عام ليس الا, ولا توجد دراسات كبيرة ومعمقة حوله,رغم ان الاديب الكبير وشيخ مترجمي العراق في موسكوغائب طعمة فرمان ( 1927 بغداد – 1990 موسكو) قد ترجم روايته الثلاثية – ( درب الالام) ضمن ما ترجمه لدار النشر السوفيتية المعروفة (التقدم ) وشقيقتها ( رادوغا), والتي عمل فيهما طوال ثلاثين سنة الاخيرة من حياته , وتتكون هذه الثلاثية من الكتاب الاول بعنوان – ( الشقيقتان), والكتاب الثاني بعنوان – (عام 1918) , والكتاب الثالث بعنوان – (صباح غائم ), وتوجد مخطوطة اخرى شاهدتها شخصيا عند ارملة المرحوم غائب طعمة فرمان السيدة اينا فرمان وهي رواية تولستوي الثالث هذا بعنوان ( بطرس الاول ) , وقد ترجمها غائب باكملها ولكن رحيله المفاجئ حال دون ان ينشرها مع الاسف , وتنتظر هذه المخطوطة من يقوم بمراجعتها ونشرها , ومن المناسب ان نذكر هنا الى ان احدى طالباتي في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد قد كتبت اطروحتها وناقشتها بنجاح في جامعة بطرسبورغ عن تولستوي الثالث هذا , وهي الدكتورة هديل اسماعيل التدريسية في القسم المذكور الان, وبهذا اصبحت اول متخصص في العراق بادب تولستوي , واتمنى ان اجد انعكاسا لذلك في بحوثها واصداراتها ومقالاتها مستقبلا.
وقد ظهرت في الادب الروسي المعاصر الان اديبة اخرى هي حفيدة تولستوي الثالث هذا , ولكن الحمد لله ان قواعد اللغة الروسية تفرق بين القاب المذكر والمؤنث , ولهذا فان اسم هذه الحفيدة يتميز باللغة الروسية ويصبح – تولستايا ( للمؤنث) بدلا من تولستوي ( للمذكر),وهكذا لن تدخل حفيدة تولستوي ضمن هذه المقالة بفضل قواعد اللغة الروسية ليس الا.
والخلاصة, ان الادب الروسي لا زال ساحة شبه مجهولة بالنسبة للقارئ العربي رغم كل الجهود التي بذلها بعض المثقفين العرب في هذا المجال , وكم نحن بحاجة الى تنسيق جهودنا والتعاون معا من اجل ان نقدم هذا الادب الغني والكبير بشكل متكامل وموضوعي للقارئ العربي.