18 ديسمبر، 2024 5:19 م

مكية وديمقراطية “سيّئة السمعة”

مكية وديمقراطية “سيّئة السمعة”

لايجمع العراقيون على العديد من محطات تاريخهم المعاصر ابتداءً من تتويج فيصل الاول، ومروراً بسقوط العهد الملكي، وليس انتهاءً باسقاط صدام في مثل هكذا يوم قبل 14 عاما.
وفي دلالة بالغة تكشف عمق الانقسام المزمن، ينزع العراقيون لاستخدام تسميات مواربة للتعبير عن محطات تاريخهم الاشكالي. فانقلاب رشيد عالي الكيلاني يسمى بـ”الحركة”، وتهجير اليهود يعرف بـ”الفرهود”، وحرب الخليج الثانية تسمى “ضربة بوش”.
ويبلغ الاختلاف ذروته كل عام بحلول ذكرى اسقاط النظام الملكي في 14 تموز 1958، بين من يعتبره انقلاباً لانه أطاح بنظام ديمقراطي ولو على علّاته، وبين من يعتبره ثورة لجهة انهائه حقبة قاتمة من الاقطاع السياسي.
وكل عام في مثل هذا التاريخ، يستعيد العراقيون الانقسام ذاته حول سقوط دكتاتورية صدام بفعل التدخل الاميركي. فبينما ينزع عراقيون الى تسمية يوم 9 / 4 بيوم التحرير، حدّ ان مجلس الحكم أعلن ذلك يوما وطنيا، قبل ان يتم إلغاء هذه العطلة بعد سنوات لاحقة.
وبمعزل عن معسكر مناهضي “الاحتلال”، الذي أقره مجلس الأمن الدولي في 2003 واعترفت به الولايات المتحدة وقتها، فإن طيفاً من العراقيين يفضل الاشارة الى هذه المناسبة بمفردات كـ”السقوط” أو “التغيير”.
إلا ان المفكر العراقي كنعان مكية قرر في لحظة استعادية، اعقبت عقدا من الصمت الاختياري، اطلاق تسمية “الفتنة” على اسقاط نظام صدام. اذ لم يكن مكية ينظر الى المعنى القاموسي لمفردة “الفتنة”، عبر روايته التي صدرت العام الماضي، بقدر محاولته الانتصار لنفسه من خلال الدفاع عن الرؤية الاميركية لعراق ما بعد صدام.
ولم يكتف مكية بروايته المتواضعة، التي انتصر فيها لديكتاتور لطالما حرض على الإطاحة به بأي ثمن، بل ختمها بما يشبه البيان صبّ، من خلاله، جام غضبه على العراقيين لانهم لم يكونوا أوفياء لنموذج اعترف الاميركان انفسهم بفشله لاحقاً.
المفكر المغترب، الذي أغرم بكتاباته ليبراليو العراق الجديد، تجاوز بكل رشاقة كوارث “المحرّر” الذي قام بتفكيك الدولة العراقية وإعادة تشكيلها على اسس اثنو طائفية تهدد بتفتيت الدولة ذاتها في نهاية المطاف، ومسحها من خارطة الوجود.
لكن ما عجز مكية عن مقاربته، هو المآل التراجيدي الذي وصل اليه النموذج الاميركي لحقبة ما بعد صدام. فليس هناك استقرار سياسي، ولا جيش نظامي، ولا اقتصاد حر، والأقسى والأخطر من ذلك اننا فقدنا وللابد تاريخاً راسخا وفريدا من التعايش بين المكونات.
اقتصرت معالجة مكية، في رواية “الفتنة”، على نتائج النموذج الاميركي، متغافلا عن مقاربة جذور هذا الخراب الذي حوّل العراق / الدولة، الى سلطة تعاني من أزمة شرعية، وشعب مشتت ومتنازع فيما بينه، وثروات بلا حماية، وفي مهب الاطماع.
حاول مكية عبر روايته تقديم مرافعة عن عقد من التهم والانتقادات التي واجهها بسبب دعمه وتأييده لحرب تحرير العراق. لكن للأسف لم يكن هذا الدفاع متماسكاً، وافتقر، في الوقت ذاته، الى الموضوعية والواقعية، التي يجب ان يتحلى بها باحث كبير كصاحب الرواية.
لقد انشغل مكية بمشروع الذاكرة العراقي، الذي لفه النسيان ايضا، عن توثيق مراحل تطور النموذج الاميركي بعد 2003. ففي مقالة نشرها عام 2011 بدا أن ذاكرة صاحب كتاب “القسوة والصمت” توقفت عند لحظة اسقاط تمثال الفردوس، وعجزت عن مراقبة المؤثرات الداخلية والخارجية التي شهدتها الساحة العراقية.
لذا، فلم نسمع رأي المفكر العراقي حول قرارات الحاكم المدني بول بريمر بحلّ الجيش، واجتثاث البعث الذي تولى تطبيقه صديقه الراحل أحمد الجلبي. ولم يكشف مكية عن موقفه من الصمت ازاء القسوة التي تعامل بها المحررون مع العراقيين في فضيحة ابي غريب وانتهاء بمجزرة ساحة النسور.
لاينبغي ان تمر ذكرى 9 نيسان، على العراقيين، مرور الكرام من دون مراجعة للنموذج الاميركي الذي فشل في انتاج دولة مستقرة. بل تحوّل النموذج “المعولم” الى عامل زعزعة لاستقرار المنطقة بأسرها، وهو ما يخشى ان يكون مخططا ومقصودا منذ البداية.
وما يدعو للأسى ان تاريخاً مهماً كـ 9 نيسان، لم يعد مناسبة يتذكرها العراقيون بما تستحق. ولا تحظى هذه المناسبة بالاستذكار اللازم لنجاحاتها واخفاقاتها. هكذا تمر الأيام، يصمت الحاكم على فشله، وينشغل المحكوم بهمومه.
نقلا عن المدى