18 ديسمبر، 2024 11:48 م

مكر شيطاني في معركة السلطة مع الصحافة

مكر شيطاني في معركة السلطة مع الصحافة

من المحزن أن يستطيع الرئيس الأميركي منع عدد من أهم وسائل الإعلام في العالم، من حضور مؤتمراته الصحافية، لكن ألا يجدر بنا أن نحزن عندما نجد أن صحافتنا العربية مازالت تطلق بوجه الرؤساء أسئلة تكتب لها مسبقا، مثل فقاعات الصابون!

قد تبدو صيغة العلاقة بين السلطة والصحافة واضحة بقدر كاف، إلا أنها في حقيقة الأمر ملتبسة، فبمجرد أن تكون الصحافة مهادنة هذا يعني أنها خضعت لإملاءات السلطة، لكن السلطة لن ترحم الصحافة وستشن عليها معركة قاتلة عندما تجدها تهدد بشكل حقيقي وجودها.

الحكومة والسياسيون لا يدفعون أكثر من ضريبة الكلام، فيما الصحافة مهتمة بمنع الفساد والتغول وحرية تبادل المعلومات.

حتى يبدو تفضيل النظم الديمقراطية الكبرى لصحافة من دون حكومة على حكومة من دون صحافة، حكمة أفلاطونية، لم تتحقق في يوم ما منذ أن كتبت الصحافة مدونتها الأولى في التاريخ.

العداء كامن بين الصحافة والحكومة ولن تصل هذه العلاقة إلى المثالية مع كل الحماية التي توفرها المؤسسات الديمقراطية للصحافة.

غرور الحكومة ومصالحها واندفاع الصحافة وتهورها أحيانا، ليست أجواء طيبة لعلاقة مثالية.

لم تكن الصحافة بحاجة إلى “مكر شيطاني” يديره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفق تعبير الكاتب سيمون كيلنر، لنكتشف مسعى الحكومة لتقـــويضها.

مشكلة الصحافة مع الحكومة قائمة منذ أن وجدت الصحافة، ليس في فكرة العداء التاريخي الكامن بين الطرفين، فأداء الحكومة دائما تحت مشرط النقد الصحافي، بينما اتهامات الحكومة للصحافة لا تنتهي بالانحياز وعدم الموضوعية وغالبا ما تصل إلى وصفها بالكاذبة.

ستتفاقم المشكلة بين الطرفين وتصبح موضعا للتهكم والسخرية من قبل الجمهور عندما تهادن الصحافة في خطابها وتلمع أداء الحكومة!

وهذا ما افترضه كلام راسل بيكر المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز، بعدم وجود صحافيين اليوم يغطّون البيت الأبيض كما كان الأمر سابقا، بل يوجد صحافيون يغطيهم البيت الأبيض، في إشارة مثيرة إلى علاقة المصالح وفكرة البقاء ما بين الحكومة والصحافة.

اليوم ثمة انتباه مفزع وتضخيم لتلك العلاقة ما بين الصحافة والحكومة، وكأن أعيد إحياؤها من جديد “من قال إنها ماتت؟”.

الفكرة التي يريد ترامب ترسيخها في ذهن الجمهور عن الصحافة بوصفها مكرا شيطانيا، أربكت الصحافة وجعلتها تعيد التفكير في مصالحها قبل خطابها.

هذا ما يذهب إليه الكاتب سيمون كيلنر فـ”المكر الشيطاني” الذي يخطط له ترامب يسعى إلى تقويض الصحافة.

يعود سيمون إلى العلاقة بين الحكومة والصحافة، مفترضا أنها يجب أن تكون صريحة، لأن دور كل طرف منهما واضح، فالحكومة هي النخبة والصحافيون يمثلون المعارضة للسلطة القائمة.

لكن الظروف السياسية التي يمر بها العالم جعلت دونالد ترامب يقلب الأمور رأسا على عقب.

علينا ألا ننسى هنا أن هذا المكر ينبت في أرفع الواحات الديمقراطية في العالم التي تضمن حرية الصحافة كرقيب ضامن ومانع لفساد الحكومة.

ستتبادر عاجلا إلى الذهن الصورة الواهنة التي تمثلها علاقة صحافتنا العربية مع الحكومات، وعما إذا كانت قد مرت فعلا بتلك العدائية من أجل مصلحة الناس!

هل ثمة حرب على وسائل الإعلام حقا، اندلعت مع وصول الرئيس الأميركي إلى البيت الأبيض؟

هذا ما يجد له المخرج الأميركي تشارلز فيرغيسون إجابة في دفاعه عن وسائل الإعلام، ويقر بإعلان ترامب مثل هذه الحرب بالتزامن مع ضغوط مالية كبيرة على وسائل الإعلام.

ويعود فيرغيسون إلى التاريخ من أجل تأكيد فكرة أن الصحف لا تستطيع كشف مواضع الفساد والتزوير ونهب المال العام، إن لم تكن قوية ماليا ورابحة تجاريا.

ويذكّر أن واشنطن بوست ونيويورك تايمز وصحفا أخرى وقفت في وجه الرئيس ريتشارد نيكسون بشأن الغارات السرية على كمبوديا وكشفت فضيحة وترغيت، لأنها كانت صحفا قوية ماليا ورابحة تجاريا، أما اليوم فقد أصبحت الصحف تقلص من عدد صحافييها، خاصة الصحافيين الاستقصائيين، وبيعت واشنطن بوست لشركة أمازون، بينما تعد لوس أنجلوس تايمز وشيكاغو تريبيون في عداد الصحف المفلسة، فيما تتعرض الشبكات التلفزيونية لضغوط مالية كبيرة، ولا توجد الآن في الولايات المتحدة أي شبكة تلفزيونية مستقلة.

يعترف سيمون بأن خطة ترامب الماكرة لتقويض الصحافة من خلال تهجمه على الصحافيين واستعماله عبارة الأخبار المزيفة، ووصفه الصحافة بأنها عدو الشعب، نجحت في تصوير الصحافة بأنها وسيلة في يدي السلطة القائمة تخدم مصلحتها بينما هو يتحداها لخدمة مصلحة الأميركيين العاديين.

من المحزن أن يستطيع الرئيس الأميركي منع عدد من أهم وسائل الإعلام في العالم، على غرار نيويورك تايمز والغارديان “سي أن أن” و”بي بي سي” من حضور مؤتمراته الصحافية، لكن ألا يجدر بنا أن نحزن ولو قليلا عندما نجد أن صحافتنا العربية مازالت تطلق بوجه الرؤساء أسئلة تكتب لها مسبقا، مثل فقاعات الصابون!

سلوك ترامب كشف لنا بوضوح العلاقة الملتبسة بين الصحافة والسلطة. عندما يتعلق الأمر بقيم الصحافة الغربية فإنها لن تتراجع بسهولة، هي ليست قديسة عندما يتعلق الأمر بمصالح الدول والسياسات في العلاقة مع الخارج، لكنها تشعر هذه المرة أن حريتها أثمن ما تملكه باتت مهددة، وثمة من يقوض مصداقيتها أمام الجمهور ويوصلها إلى الإفلاس، لذلك فإن الصحافة لن تنسحب خاسرة من هذه المعركة.

لنتذكر ونحن نتابع معركة “المكر الشيطاني” التي يُسقيها الرئيس الأميركي وفريق عمله بقوة مالية وإعلامية موازية، أن صحافتنا العربية عاجزة عن الدفاع عن مصداقيتها المهدورة بيد السلطات ورؤوس الأموال وأخيرا مصالح رجال الدين!

نقلا عن العرب