أيام حكم البشير “أيام الدنيا إنقاذية” كان من طبع الوزراء و المسؤولين إنكار الواقع و الأزمات و كذلك التنصل من المسؤوليات! و تذكرون الوزير الذي إنكر وجود أزمة وقود و ليس فقط نفي علمه بها؟! متسائلاً بصلف: مكانها وين؟
اليوم لا أحد ينكر الازمات أو يختبئ منها، و لا أحد يسعي لحلها امنياً .. إنما تتم مواجهتها بجهد كبير و صبر أكبر و في غياب حتي المساعدة الأمنية الضرورية “إنفاذ القانون” أحياناً ..
لا أحد ينكر الأزمات و لا يختلف حولها إثنان؛ إنما يختلف الناس في أسبابها و موجباتها و طرق حلها.. و قد يختلفون في طرق التقصي و البحث عن تلك الأسباب أيضاً..
فاليوم مكان الأزمات هو أسبابها أو العقدة التي تعرقل أو تمنع إنسياب السلع و الخدمات..
لا أريد أن أقلل من حجم أو فداحة الأزمات المعيشية؛ لكن حدوث أزمات في هذه الفترة متصور، فحالياً يجري تغيير كامل المنظومة في البلد، كل “الضبط جاري إرجاعه لوضع الدولة” أو الوضع الذي كان عليه قبل ثلاثين عاماً، لوضع الحكومة المسؤولة عن كامل الرعايا علي الأراضي السودانية، بدلاً عن ضبط المنظومة التي كانت ترعي و تخدم مصالح فئة محدودة بينما يعيش البقية علي فتات موائد اهل الحظوة!
فاولاً؛ المستفيدون من الوضع القديم لن يقفوا مكتوفين، بعضهم سيعرقل و بعضهم سيحاول أن يقبض قبضةً من الأثر و يغتني قبل أن يستقيم الوضع و تقفل صنابير الفساد!
و ثانياً؛ حتي الذين كانوا يأكلون من الفتات قديماً و يصمتون، لن يصمتوا حالياً علي الفتات ناهيك عن أن يصمتوا إذا تعذر حتي ذلك الفتات أيضاً!
لذا تتعقد الأزمات كما يرتفع الجأر بالشكوي ما يعقد الوضع مرة إضافية..
الأزمة مكانها يا سادة في أكثر من مكان، و كون أن الأمور سارت خلال نحو عام منذ تشكل مجلس الوزراء الإنتقالي و أكثر من عام منذ سقوط البشير و حكومته “حكومة ايلا”، فهذه معجزة في ذاتها تؤكد إن هذا الشعب شعب خيّر و صبور و يستحق الإحترام الكامل من حكامه و من نخبه..
فحمدوك حين تسلم القياد و معه قادة قوي إعلان الحرية و التغيير المتحلقين حوله لم يكن يعلم و لا كانوا يعلمون ما الذي استلمه و ما الذي لم يستلمه!
(ملف البنك المركزي أكبر دليل علي ما قلنا إذ و بعد ثلاثة أشهر من تسلمه ملف الحكومة فاجأ الجمهور و بحديث عرضي في مقابلة تلفزيونية بأنه لا يملك ولاية علي البنك المركزي “من أي نوع” فثارت ثائرة الشعب ثم إستمعنا لأخبار مفادها إن البنك المركزي آل للحكومة التنفيذية و لم نستمع، أو لم أستمع شخصياً لتأكيد من أي مسؤول حكومة لذلك الخبر!)
فالتسليم و التسلم لم يكن حتي بالطريقة البروقراطية العادية؛ لم يكن تسليم إنتقال سلس بل تسليم و تسلم إفتكاك و نزع! لذا إستلم من موظف في مجلس الوزراء و ليس من نظير متعاون!
ثم إن الدول صغيرها و كبيرها لا يمكن أن تدار من مبني واحد أو مبنيين و بفريق لا يتجاوز الثلاثين شخص أغلبهم أتي من خلفية تكنوقراطية “مهنية” و من خارج الأجهزة الحاكمة بحسب ما إقتضت ظروف الثورة و أحكام التغيير .. لا يمكن أن تدار بلاد بمجلس وزراء و مجلس سيادة فقط! و كامل منظومة الحكم الولائي و المحلي خارج الصورة!
منذ أن إستلم حمدوك ملف الحكومة التنفيذية و هو يهمل شأن الحكم الاتحادي و المحلي، و لم يلفت أعوانه من جماعة أحزاب قوي إعلان الحرية نظره لأهمية هذا الملف! كنا نتوقع و ننتظر أن يعقد إجتماعاً مع ولاة الولايات كلهم دفعة واحدة أو مع كل واحدٍ علي حده، و يملكهم المطلوبات و التوجيهات في المرحلة المقبلة كما لم يعقد إي إجتماع مع معتمدي المعتمديات أو لم يصدر إليهم أي تعميم بالمطلوبات و موجهات العمل، و حتي وزير الحكم الإتحادي الذي تم تكليفه مؤخراً لإدارة الخرطوم “ولاية العاصمة” لم يقم بأي عمل معلن في إتجاه تنشيط و تفعيل و ضبط المحليات و الولايات.. و لا يخفي علي أحد أن أجهزة التنفيذ الحقيقية لأي حكومة هي مكاتب الولايات و المعتمديات/ المحليات..
و ربما كان لإعتبار أن ولاة الولايات و معتمدي المحليات جري تعيينهم من قبل المجلس العسكري قبل أن يتسلم “رئيس الحكومة” منصبه دور في أن يتجاهلهم في إنتظار تعيين الولاة المدنيين و هو الإجراء الذي تأخر و الذي أيضاً ربما لا يتم في القريب! فما العمل إذاً ؟!!
كيف ستسير الحكومة أعمالها و كيف تنفذ قراراتها و أوامرها و أكثر من ثلثي جاهز الدولة و الحكم مقطوع الصلة بها؟!
كان و لا يزال يجب علي الحكومة أن تضع خط فاصل بين الجهاز الإداري “الخدمة المدنية” و بين الجهاز السياسي، فموظفي وزارات الولايات و الضباط الاداريين و موظفي المحليات هم مجرد موظفي خدمة مدنية و علي الحكومة الإستفادة من خبراتهم و طاقاتهم بل و تمنحهم سلطاتهم التي سحبها منهم النظام السابق لصالح جهازه السياسي “الولاة و المعتمدين”، و نعلم أنه قبل أن يبتدع نظام البشير نظام الحكم الفيدرالي “و الذي طبقه صورياً بأشكال و مسميات دون مضمون و صلاحيات سياسية و قانونية فعلية” و علي عهد الأقاليم كان حاكم الإقليم و محافظ المنطقة “المحافظة” هما الدرجة الدنيا للجهاز السياسي و لم يكن ثمة وزراء بالأقاليم مع كونها أكبر مساحةً من الولايات الحالية! بل كان ثمة مفوضين (للأمن و أعمال الشرطة، و للصحة، و التعليم،و الإدارة) و يمثلون قمة جهاز الخدمة المدنية في أقاليمهم و محافظاتهم و لا يستطيع حاكم الإقليم أن يتدخل في عملهم و لا الكيفية التي ينفذون بها سياسة الحكومة..
هذا هو الوضع السليم الذي كنا و لا نزال نطمح في العودة إليه، فلماذا تتقاعس الحكومة في فرضه و هو يساعدها في تنفيذ السياسات و القيام بالخدمات الحكومية للجمهور؟!
و هذا هو الوضع الذي دونه لن تستطيع حكومة “في غير السودان” ان تسيّر اعمالها لأربع وعشرين ساعة ناهيك عن عام!