23 ديسمبر، 2024 3:19 م

مكانة الاسرة بين الامس واليوم ( صراع القيم والتقنية ) تحليل لفلسفة توفلر

مكانة الاسرة بين الامس واليوم ( صراع القيم والتقنية ) تحليل لفلسفة توفلر

الاسرة النوة الاساسية التى ينبثق منها المجمتع فهي الاساس لبناء اي مجتمع انساني. فلو لا وجودها لما استطاع الانسان التقدم بالحياة الاجتماعية ولما استطاع الاستمرار دون شك, وقد حاول الفيلسوف الامريكي ” الفين توفلر ” الوقف عند الاسرة في محاولة لوصف التغيرات التى طرات عليها والتنبوه بما ستصل اليها الاسرة في المستقبل.
يقف توفلر عند التغيرات الكبيرة التي طرأت على الاعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد والاخلاقيات, لا بل سبل العيش التي كانت متبعة لدى الشعوب, فيشير الى التقلبات والتطورات التي شهدتها الافكار الأنسانية, وبما انه عاش في بيئة متقدمة علمياً تمتلك الطاقات الكبيرة في المجال العلمي والتكنولوجي, فقد شهد على الانقلابات التي رافقت ذلك. فالمعروف عن توفلر تقسيمه التطور الحضاري, أو التقدم التاريخي الى موجات( الموجة الاولى التي شهدت وصول الانسان الي اكتشاف الزراعة والمراعي وتدجين الحيوانات, والموجه الثانية الموجه الصناعية, وما افرزت من توفير حياة مريحة, وكذلك الموجه الثالثة التي افرزت التكنولوجيا والثورة التقنية ) إنّ هذه التغييرات لم تكن سهلة في تقبله لدى الناس, فقد عاش المجتمع الغربي وسط عاصفة نارية من التغيير هذه العاصفة، بدلاً من أن تهدأ، تلوح وكأنها تجمع قواها لهبة أشد عنفواناً، وان موجات التغيير تكتسح المجتمعات المتقدمة صناعياً بعنف متفاقم وسرعة متزايدة، وهي تحمل في براثنها كل أنواع البيئات الغريبة المستحدثة من ابتداع وسائل لم تكن معروفة لدى الناس من المسائل الجنسية وغيرها من المشاكل التي أثرت في عقول الشباب.
وضمن هذه البيئة غير المألوفة في السابق بالنسبة للإنسان تجد أيضاً شخصيات شاذة أطفالاً في الثانية عشرة لا يبدون كأطفال، ورجال أثرياء يجدون متعتهم في انتحال صفة الفقر، ومبرمجو عقول الكترونية يتعاطون عقار الهلوسة، وهناك فوضويون هم تحت قمصانهم القطنية القذرة محافظون، ومحافظون هم تحت ياقاتهم العالية فوضويون حتى النخاع، هناك كهنة متزوجون، وقساوسة ملحدون … الخ.
إن الكثير مما يبدو لنا الآن مستعصياً على الإدراك سيغدو كما يقول توفلر أقل غموضاً إذا ما نظرنا نظرة جديدة إلى معدل التغيير الذي جعل الواقع يبدو أحياناً كالخيال المجنون، فالتغيير المتسارع لا يقرع أبواب الصناعات والشعوب فحسب، ولكنه يتغلغل في أعماق حياتنا الشخصية، ” فعندما تتغير الأشياء من حولك، فإن تغيراً موازياً يحدث في داخلك ” .
هذه التغييرات الداخلية من العمق لدرجة أنها تمتحن قدرتنا على الحياة في إطار المعايير التي كانت ومازالت حتى الآن تعرف الإنسان والمجتمع.
ومن أجل البقاء والاستمرار في الحياة، لابد وأن يصبح الفرد أكثر قدرة على التكيف منه في أي وقت مضى ربما؛ لأنها واقع حال لا مهرب منه، ولابد من أن يبحث عن مسالك جديدة تماماً توصله إلى برّ الأمان, وتجعله متمسكاً بالحياة بعد التغييرات التي طرأت على وسائل العيش وتغيير القيم إن صحّ تعبيرنا، حيث إن كل الجذور القديمة الثابتة: الدين والأمة، والمجتمع والأسرة، والمهنة تهتز الآن كلها بقوة تحت التأثير العاصف لدفعة التغيير المتسارعة.
ومن اجل ذلك نشهد الانقسامات والصراعات التي تخلق الفجوات وتبعد المسافات بين الشعوب , وتجعلهم يسعون الى تآمر بعضهم على بعض , ويدخلون في تكتلات ومعسكرات لكي تحارب من يعترض افكارهم وآرائهم ومصالحهم التي تأتي في الدرجة الاولى وفي المقام الاول . إنها تفجر سوء الفهم المرير بين الآباء والأبناء، بين الرجال والنساء، بين الشرق والغرب … الخ.
وفي ظل هذه التغييرات ماذا يتوجب علينا ان نفعل هل نستسلم, أو نحاول التصدي لذلك, أو نحاول التوافق مع الظاهرة الجديدة ؟ يجيب توفلر عن هذه التساؤلات بقوله : ” في اللحظة الحاضرة، وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية، سواء أتعلق الأمر بالأسرة، أم بالمدرسة، أم بشركة ما، أم بالدين، أم بأنظمة الطاقة، أم بشبكات الاتصال، نجد أنفسنا أمام ضرورة خلق أشكال ملائمة جديدة للموجة الثالثة، إذ ” إن الارتباط بمجتمع ما فوق التصنيع يعني الارتباط بعالم يتحرك بسرعة لم يعرف لها مثيل من قبل”.

الاسرة وتطورها :-
وفي طرح مسالة التعاون والتفاهم بين أفراد الاسرة في السابق قبل الموجة الجديدة التي ادخلت مفاهيم وقيم في النظام الاسري استطاعت ان تغيير الافكار ففي السابق(قبل الثورة الصناعية) مثلاُ كانت هيكلية الأسرة واسعة, وكانت هي النوع الغالب، وكانت حياتها تدور حول البيت المشترك، فهناك كان الناس يعملون ويعنون بالمرضى ويربون الأطفال. إن هذا البيت كان مجال اللهو والمكان الذي يُهتم فيه بالأكبرين عمراً، فكانت الأسرة، أيام الموجة الأولى مركز العالم الاجتماعي , فقد كانت تجتمع في اتخاذ القرارات وتتوحد في مواجهة صعاب الحياة. الا ان هذه الحالة تغيرت ولم تبقى على حالها فمع قيام الثورة الصناعية، نشأت الأسرة النووية ” التي تتكون من الزوج، الذي كان يعمل كسباً للرزق، والزوجة ربة البيت وعدد من الأطفال” .
فرفعت الموجة الثانية من شأن هذه الأسرة وجعلتها أُنموذجاً عاماً نشرته في العالم أجمع، فأصبح المقياس المقبول اجتماعياً لملاءمة حاجات مجتمع الإنتاج الجملي ذي القيم والأساليب الحياتية المشتركة والسلطة الهرمية والبيروقراطية، والذي يفصل حياة المنزل على حياة العمل، إذ انتقل العمل إلى المصانع والمكاتب، ثم أرسل بالمرضى إلى المستشفيات، والصغار إلى المدرسة
ولم يبقَ شيء سوى الأسرة النووية التي يقوم انسجامها لا على الوظائف, أو الأعمال المنجزة من قبل عضويها بالدرجة الأولى، بل على علاقات نفسية، ما أسهل أن تقطع
ومع قدوم الموجة الثالثة– يقول توفلر:- إن “الأسرة النووية” لم تعد تلائم أُنموذج المجتمع المثالي أي أسلوب الحياة اللانووي، وهذا لا يعني أفولاً كاملاً للأسرة النووية.
وفي مقابل استلاب الإنسان، وتوجيهه باتجاه واحد، تناغماً مع أسلوب ونمطية حياة مجتمع التصنيع المركزي، الذي دمر الكثير من الروابط الإنسانية، وألغى مركزية البيت الاجتماعية – كما كان في الموجة الأولى- فإن الحضارة القادمة ستعيد إلى الأسرة والمنزل، كل أهميتهما إنها ترّد إليها عدداً من الوظائف المضيّعة، التي كانت في الماضي تجعل منها الخلية الأولى في المجتمع. ففي مجال تربية الأطفال فسيفضل الكثير من الناس في الموجة الثالثة، أن تتم هذه العملية في المنزل، خصوصاً بعد أن يتم دخول “التلفزيون- الحاسوب” إلى البيوت , الا ان في ذلك سلبيات ايضاً فأنها تخلق تباعداً اجتماعياً بين الناس, فقد يضَّيع الفرد معظم وقته ان لم نقل كله على الانترنيت او أيّ وسيلة من وسائل التطور التي لا يكاد اي بيت يخلو منها, وأن مقداراً متصاعداً من الأعمال في القطاع التصنيعي يمكن إنجازها–بمساعدة وسائل الاتصال عن بعد والكمبيوتر- في أي مكان حتى في غرفة الجلوس. وينشأ نتيجة لذلك ما يعرف بـ”الاقتصاد المنزلي.
وسيؤدي العمل في المنزل إلى تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية التي أضعفها العمل في خارج المنزل ولساعات طويلة-عمل عضلي يرهق الإنسان ويسلب قواه ووقته- ومن ثم ” سيخرج العمال الذين يكونون قد قضوا طيلة نهارهم في البيت للذهاب إلى المسرح المحلي, أو ليشاركوا في أمسية مع جيرانهم, أو في مناقشة سياسية, أو اجتماع يضم الأصدقاء “.
ولهذا الأمر أثر سيكولوجي إيجابي يتمثل في زيادة الاستقرار الاجتماعي والنفسي، إذ إن البيت الإلكتروني سيجعل من الإنسان متعدد الأبعاد بدلاً من أن يكون ذا بعدٍ واحد.
وكما كان سائداً في مجتمعات الموجة الأولى من توسع الأسرة، فإن أسرة العمل في البيت المستقبلية قد تدعو غريباً أو اثنين للانضمام إلى العمل على سبيل المثال، زميل من الشركة التي يعمل فيها الزوج أو الزوجة أو ربما زبون أو متعهد له صلة بالموضوع أو ابن الجيران الذي يرغب بتعلم مهنة. وفضلاً عن التربية والعمل المنزلي، نلاحظ الآن أن عدداً أكبر من المهمات الطبية التي كانت تتم في المستشفى أو في عيادات الأطباء- من اختبارات الحمل إلى قياس الضغط- صارت الآن تتم في المنزل، إن دور الأسرة يتنامى.ولكنها الآن أسرة متنوعة الأشكال، والأنواع بما يعكس التنوع الحاصل في الاقتصاد والثقافة وشمل التنوع الفرد أيضاً.

الفردية في النظام المستقبلي:
إن حالة التنوع اللامتناهي، التي حصلت في مجال الإنتاج لم تكن وحدها على الساحة، بل نجد انعكاساً مماثلاً لهما في مختلف جوانب الحياة الأخرى من السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية ، فمن المركزية إلى اللامركزية، ومن الجماهيرية إلى اللاجماهيرية ومن الإنتاج النمطي الكثيف إلى الإنتاج المتنوع الخفيف، وصولاً إلى إضفاء السمة النفسية على المنتوج وشخصنته، ومن ثم ظهرت حالة من الفردية يتسم بها إنسان ما بعد التصنيع من استقلالية، لم يسبق أن شهدتها مرحلة من مراحل التاريخ.
إن هذا التحول في الحياة الاجتماعية والسياسية وهذه الانقلابات لها من تأثير كبير في مكانة الفرد في المجتمع ودوره فيه ويذهب توفلر الي تأكيد ذلك بقوله :” إن قفزة المجتمع إلى مستوى جديد من التنوع سوف يجلب بالضرورة فرصاً جديدة للفردية، وأيضاً فإن التكنولوجيا الجديدة والأشكال التنظيمية المؤقتة الجديدة تحتاج إلى نوعيات جديدة من البشر.
ربما نجد توفلر يذهب الي ان ما يشهده العالم من تغييرات وانقلابات لن يكون بالأمر الذي يسهل قبوله لدى الكثير من الناس وخصوصاً الكبار في السن باعتبارهم لم يتعودا على هذه القيم ومن اجل ذلك يتطلب تربية الاجيال القادمة على ذلك لكي يسهل اقناعهم ولكي يكون من السهل تطبيق هذا المشروع عليهم .
فالناس اليوم، الأكثر ثروة وتعلماً من آبائهم والمواجهين بخيارات حياتية أكثر، يرفضون التكتل أو أن يتم تكتلهم، وكلما ازداد اختلاف الناس، إن كان بالعمل الذي يمارسوه أو السلع التي يستهلكون، ازدادت أيضاً مطالبتهم بمعاملتهم أفراداً وازدادت مقاومتهم لبرامج المواعيد الزمنية المفروضة اجتماعياً.
إن إيقاعات الموجة الثالثة تنشأ من القوى النفسية والاقتصادية والتقنية العميقة، ومن ناحية تنشأ من طبيعة السكان المتغيرة، ومن ثم فإن الانتقال من ثقافة ذات معايير محدّدة بوضوح وتراتبية إلى ثقافة تسقط فيها الأفكار، الصور والرموز في دوامة حقيقية، يؤدي إلى أن يبحث الفرد عبر مختلف العناصر ليكوّن فسيفساءه أو ملصقاته الخاصة، أما القيم المتعارف عليها، فستكون محل خلاف، بل مجهولة.
وفي ظل هذه التداعيات، فإن مفاهيم كثيرة كانت أقرب إلى أن تكون بديهية سيثار حولها الشكوك بل إن منظمات بيروقراطية راسخة ستحاول جاهدة ما أمكنها البقاء في صراع الوجود، ومنها المنظمات السياسية، سواءً المحلية أو الدولية.

الهوامش
1- مؤيد بركات حسن , الدولة في الفلسفة الغربية المعاصرة ( برتراند رسل انموذجاً), اطروحة دكتوراه, الجامعة المستنصرية.
2- توفلر، صدمة المستقبل،، (المتغيرات في عالم الغد)، ترجمة محمد علي ناصف، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط(2)، القاهرة.
3- توفلر، إنشاء حضارة جديدة، (سياسة الموجة الثالثة)، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، سوريا، 1998.
4- توفلر، حضارة الموجة الثالثة، ترجمة عصام الشيخ قاسم، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ط1، بنغازي، ليبيا، 1990.