التقينا لاول مرة في الندوة العالمية لاساتذة اللغة الروسية وآدابها في اواسط سبعينيات القرن العشرين في موسكو , و تعارفنابالطبع , وكم كانت المفاجأة كبيرة وجميلة لكلينا , اذ اننا اكتشفنا انها تعرف– وبعمق -معظم اساتذة اللغة الروسية وآدابها في كلية الاداب بجامعة بغداد فيالعراق وانني اعرف– وبعمق ايضا – معظم اساتذة اللغة الروسية وآدابها في كلية الالسن بجامعة عين شمس في مصر , وهكذا وجدنا رأسا لغتنا المشتركة وموضوعنا الذي يوحدنا , وبدأنا نتحدث كأصدقاءبحيوية و بالتفصيل طبعا عن مشاكلنا وهمومنا العامة في مجال اللغة الروسية وآدابها وتدريسها في عالمنا العربي وعن طلبتنا وبحوثنا وصعوبة نشرها وعن مناهجنا الدراسية وكتبنا الروسية المنهجية ومواقف الدوائر الرسمية في بلداننا من اختصاصنا وعدم تفهمهم وحتى تقبلهم له ولمكانته العالمية وقيمته العلمية والخلط الساذج لديهم لهذا الاختصاص مع النظرة السياسية الضيقة والباهتة وغير الموضوعيةتجاهه في تلك الفترة السوفيتية المعروفةومستقبل خريجينا غير الواضح …الخ هذه المواضيع المشتركة والهموم والاشكالات التي كانت تعترض طريقنا وعملنا واختصاصنا في كلا البلدين. لقد أدهشتني آنذاك حيوية الدكتورة مكارم الغمري ونشاطاتها حتى في اطار الندوة العلمية تلك ومساهماتها في النقاشات التي تدور في جلساتها مع الاساتذة الروس والمشاركين الاجانب , ولا زلت أتذكر كيف كانت تسرع – بعد انتهاء جلسات الندوة – الى مكتبة لينين العامة في مركز العاصمة الروسية موسكو لمتابعة دراسة مصادر بحوثها وتنفيذ وتحقيق خططها العلمية وهي تقول لي , انها فرصة نادرة لاكمال بحوثها والاطلاع على المصادر النادرة في مجال اختصاصنا والموجودة في تلك المكتبة المركزية الكبرى فقط . بعد عودتي الى بغداد , تحدثت بالطبع– وبالتفصيل – عنفحوىتلك اللقاءآت مع زملائي في قسم اللغة الروسية في كلية الآداب , ولا زلت أتذكر لحد الآن ردود الفعل و الفرحة الكبيرة للمرحوم الدكتور محمد يونس عندما كان يستمع الى كل هذه الانطباعات و الاخبارعنها, وكيف أخذ يتحدث هو نفسه بعدئذ– وبالتفصيل – عن اطروحتها ونشاطها العلمي اثناء فترة دراستة معها في قسم الدراسات العليابجامعة موسكو آنذاك .بعد ذلك اللقاء معها بدأت طبعا متابعة بحوثها ونشاطها العلمي واخبارها , وكذلك بدأت بحملة واسعة اثناء محاضراتي امام طلبتي حول مكانتها العلمية وبحوثها , وحدثتهم عن اللقاء معها في موسكو , وقد كنت اؤكد لهم دائما ضرورة الاطلاع على كتبها وخصوصا كتابها – ( الرواية الروسية في القرن التاسع عشر ) وكتابها الآخر – ( مؤثرات عربية اسلامية في الادب الروسي ), وهما كتابان مهمان جدا جدا في مسيرة الدراسات العربية حول الادب الروسي اولا, وفي مجال الموضوعة الروسية وتاريخها في العالم العربي ثانيا , بل اني أجريت مرة حوارا خاصا مع الطلبة حول كتابها المذكور عن الرواية الروسية اشبه ما يمكن ان نسميه ب ( السيمنار ) العلمي , وأعددت له مسبقا , وتم توزيع الفصول على مجاميع من الطلبة وتحديد المتكلمين والمناقشين …الى آخر متطلبات هذا التمرين العلمي , وكان مفيدا وناجحا جدا وتقبله الطلبة بكل حب و امتنان وحماس , اذ ان مستوى معرفة الطلبة الضعيف والمحدود باللغة الروسية لم تكن تسمح لهم بدراسة المصادر الروسية حول خصائص الرواية الروسية و استيعاب سماتها وعظمتها والقضايا التي تطرحها والتوغل في اعماقها , ولهذا استخدمت كتاب الدكتوره مكارم باللغة العربية عن الرواية الروسية لتوسيع مدارك الطلبة وتعميق معرفة اختصاصهم . وكم كنت سعيدا عندما علمت بحصول الدكتوره مكارم الغمري على العديد من التكريمات الرائعة والكبيرة من قبل الجهات الروسية الرسمية , اذ انها حصلت على ميدالية بوشكين عام 1999 وعلى وسام فخري لنشر الادب الروسي عام 2006 وعلى ميدالية شولوخوف عام 2007, اضافة الى حصولها على جائزة الملك فيصل في الادب المقارن عام 1900 , وكل ذلك يعد طبعا فخرا لنا جميعا– نحن المتخصصين العرب في اللغة الروسية وآدابها – وتكريما لاختصاصنا بلا ادنى شك, هذا وقد شغلت الدكتوره مكارم الغمري منصب عميدة كلية الالسن في جامعة عين شمس المصرية من عام 2002 الى عام 2008 بعد ان كانت رئيسة لقسم اللغات السلافية في تلك الكلية , وهي الان – كما كانت دائما – بروفيسورة بارزة في دنيا الجامعات المصرية وعلم من اعلام العرب في مجال دراسات الادب الروسي في عالمنا العربي وفي مجال الترجمة عن الروسية طبعا , وانا شخصيا لا زلت لحد الان اتابع اخبارها بكل سرور , وقد التقيت في الندوة العالمية الثالثة لخريجي الجامعات الروسية في موسكو عام 2012 برئيس الوفد المصري ( وهو مدير المركز الثقافي الروسي في مصر ) وسألته عنها , فقال انه غالبا ما يلتقيها ليستمع منها الى آخر اخبار الادب الروسي , وان حديثها عن الادب الروسي يمتاز دائما بالعمق و بالعذوبة ( هكذا قال بالنص ), فضحكت انا وقلت له اني اؤيد هذه الملاحظة الدقيقة فعلا , ثم كتبت لها رسالة قصيرة وطلبت منه ان يوصلها لها , فأخذها ووعد بايصالها .وفي عام 2013 التقيت بالدكتور أحمد عبد الرحمن الخميسي , القاص والباحث والصحفي والمترجم المصري المعروف في عاصمة داغستان – محج قلعة , وذلك اثناء احتفالية داغستان بالذكرى التسعين لميلاد الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف , وسألته – من جملة ما سألت – لماذا لا يعمل في قسم اللغة الروسية بجامعة عين شمس المصرية وهو يحمل شهادة الدكتوراه في اللغة الروسية وآدابها من جامعة موسكو ؟ فقال لي رأسا وبكل عفوية وصدق ان الدكتورة مكارم الغمري عميدة الكلية قد اتصلت به وعرضت عليه فعلا ان يعمل هناك عندما عاد الى مصر لانها امرأة تمتاز بمواقفها العلمية و الانسانية , ولكنه اعتذرعن ذلك , لانه لا يحب مهنة التدريس ولا يرغب ان يكون مدرسا, وان مكانه الطبيعي هو الصحافة, وقد ازداد احترامي واعتزازي بالدكتوره مكارم بعد هذا الحديث مع الدكتور الخميسي وموقفها منه .ان عواطفي الاخوية الجياشة تجاه الدكتورة مكارم الغمري واحترامي الكبير لها واعتزازي بها جعلني ادافع عنها دائما انطلاقا من القول العربي المعروف – انصر أخاك ظالما او مظلوما , وأذكر ان احد المترجمين تكلم مرة امامي حول ترجمتها لقصيدة بوشكين الشهيرة – ( النبي ) , اذ ان الدكتورة مكارم أطلقت عليها تسمية اخرى ,وجاءت عندها بعنوان – ( الرسول ), واعترض الزميل المترجم على ذلك , مشيرا الى ان الكلمة التي استخدمها بوشكين عنوانا لقصيدته لا تتحمل التأويل او الاجتهاد هذا , وقد حاولت أنا ان ابرر ذلك , وأشرت الى ان هذا الاستخدام لا يتعارض مع مضمون قصيدة بوشكين اولا , و ثانيا , من الممكن ان الدكتوره مكارم استخدمت هذه الكلمة لعنوان القصيدة متعمدة , لأن المصادر السوفيتية تؤكد دائما ان مضمون تلك القصيدة يرتبط بروحية وقصص الكتاب المقدس واجوائه , وان مكارم ارادت ان تقول لهم بشكل غير مباشر , ولكن واضح تماما , ان تلك القصيدة تتناول قصة معروفة لدينا جميعا حول رسولنا الكريم بالذات , ولهذا أطلقت عليها هذه التسمية وحددت ذلك العنوان , وثالثا يمكن اعتبار ذلك اجتهادا من قبلها ليس الا , والاجتهاد مسموح به في الترجمة الابداعية , وقد اضطر الزميل المترجم الذي أثار ذلك الاعتراض ان يصمت عندها, وتكرر نفس الموقف عندما عرض أحد الزملاء الملاحظتين الصائبتين اللتيننشرهما المترجم الكبير يوسف حلاق ( وهو زميلي في كلية الاداب بجامعة موسكو في الستينات ) حول مقالة الدكتوره مكارم في مجلة العربي الكويتية , وخصوصا بشأن ترجمتها غير الدقيقة لمصطلح ( بروليتكولت ) الروسي المختصر , وقلت عندها للمحيطين حولي , ان علوم اللغات وآدابها واسعة جدا , مثل بقية العلوم الانسانية الاخرى , وتتميز وتختلف عن العلوم الدقيقة والبحتة كالرياضيات مثلا , لهذا يجب علينا ان نتقبل الاجتهادات المختلفة والمتنوعة , بما فيها بعض الاحيان حتى ( الهفوات ) الصغيرةهنا وهناك , والتي تحدث نتيجة مسيرة الحياة المعقدة والصعبة والمتشابكة ,او عدم وجود امكانية الرجوع الى المصادر المتخصصة بعض الاحيان , او تشابه الكلمات , وهو ما حدث هنا بالذات مع الدكتوره مكارم بشأن كلمة ( كولت )الروسية , خصوصا عندما يدور الحديث عن مواضيع او مصطلحات جديدة بكل معنى الكلمة , وذكرٌتهم بالمثل العربي المعروف – لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.