لا شك أن عنصر القيادة الدينية الواعية لمشروعها وأهدافها يعد الركيزة الأساس في إيصال صوت الإسلام الأصيل إلى أهله ليستنقذهم من الضلالة و الردى .
واستعراض المشهد التأريخي في حقبةٍ زمنيةٍ متقاربة لتجربتين تعدان النموذج الأكمل على مستوى القيادة الرسالية الواعية تعطينا نتائج مفاجئة قد تخالف متبنياتنا الثقافية و العقائدية أحياناً .
التجربة الأولى / تجربة الرسول الكريم محمد ( صلى الله عليه وآله و سلم) مع قومه وما أحدثه من تغيير جذري في منظومته المجتمعية القيمية و الفكرية و المعرفية ، انعكست آثاره في المشهد الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي ، انتقل بهم من أجواء الغابة إلى أحضان الإنسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى و لايمكن للتصور أن يحدها بحدود ، بعد أن هيمنت نتائج هذا التغيير على كل مفاصل الحياة ، فكان النجاح و التقدم و التطور الذي مهد لبناء الحضارة الإسلامية أولى ثمار التفوق و الازدهار التي أثبتت وعي القيادة الرسالية المتمثلة بشخص الرسول بمسؤوليتها تجاه مشروعها الرسالي وقد أدى مهامه على أكمل وجه ، فولدت الرحمة و الشفقة و المؤاخاة و الإيثار وكل معايير التفاضل الإنساني آنذاك .
التجربة الثانية / فكانت لربيب القائد صاحب التجربة الميدانية الفذة وخريج مدرسته الإمام علي ( عليه السلام ) ، إلا أن مشروعها الرسالي لم يكلل بالنجاح في قيادة العالم قياسًا بنظيره في التجربة الأولى ، فالصراعات في ظل هذه التجربة بلغت أوجها واحتدمتْ إلى درجة إراقة الدماء بين من قاتل بنجاح في ظل التجربة العالمية التي أبهرت التأريخ و المؤرخين ، والفتن قامت على قدمٍ و ساق ولم تهدأ إوارها إلى درجة حصول الانشقاقات والانقسامات بين من كانوا ضمن دائرةٍ واحدة على مستوى العقيدة والانتماء ، وشُغل القائد الرسالي في وأد رأس الفتنة عن إصلاح أمته كما كان يطمح لذلك أو ينبغي له أن يكون ، وغيرها من الأمور التي قوضت التكامل في الاستمرار بقطف ثمار التجربة الأولى . لم يكن الإمام علي أقل وعيًا لمسؤوليته تجاه دينه و مجتمعه من الرسول الكريم ، أو أقل همةً في نشر راية الإصلاح بين أمته ، أو احتضان آهات الثكالى وبكاء اليتامى أو رص الصفوف وكشف البدع الدخيلة على المشروع الأصيل، فإذا كان الأمر كذلك ، إذن لم َ لمْ تتحقق نفس النتائج التي شهدتها التجربة الأولى في بلوغها أهدافها ؟
لا مناص أن كل نتيجة لن تكون في تحققها بمعزلٍ عن التأثر بالظروف و المعطيات التي تكتنف ولادتها أو التمهيد لمقاربتها خط النور ، فهي لابد لها من التأثر بها من قريب أو بعيد ، لكن هذه الظروف ليست لها كلمة الفصل في إنتاج كل النتائج بمعزل عن عناصر المشروع الرسالي الأخرى ، وهنا نقف على العنصر المهم الذي يعد مكملا لعنصر القيادة الرسالية الواعية في إنجاح المشروع الرسالي ، وهو حلقة الوصل بين القائد وأهدافه ، وأعني به القاعدة الشعبية الجماهيرية الواعية لأهداف المشروع ، المدركة لمسؤوليتها تجاه دينها و مجتمعها ، التي تعرف ما ينبغي عليها عمله من الوقوف بوجه التيارات المنحرفة التي تحاول تشويه صورة المشروع أو النيل من أهدافه ، ولا تنطلي عليها المؤامرات التي تحاك بين خبايا الدهاليز المظلمة في ليالي الشتاء القارصة ، وقد حصّنت نفسها من الانتماءات لولاءات خارج إطار مشروع قيادتها الرسالية ، بل تتقدم خطوات باتجاه الحذر من أي طرح للمشروع الرسالي بصيغٍ سطحيةٍ ساذجةٍ تتقاطع مع الأهداف التي يريدها قائدها .
هذا العنصر المهم هو الذي جعل التجربة الأولى قاب قوسين أو أدنى في بلوغ أهدافها دون أن تحقق التجربة الثانية الحد الأدنى من هذه الأهداف وإنما أسهمت بإنقاذ ما يمكن إنقاذها و المحافظة على مفاهيم الإسلام الأصيلة من الانحراف و التزييف ، لأن القائد لم يجد ذلك الوعي في قواعده التي تعينه على تحقيق أهدافه ، فتركته وحيدًا يصارع الأفكار المنحرفة و قوى الضلال و الفساد ، ورجع الإسلام القهقرى يعاني آلامه منطويًا على نفسه والأمة سادرة في غيها ، يخبرنا القرآن الكريم أن الموت كمصير محتوم لايشكل نهايةً للفرد فحسب ، بل هو أيضًا من الممكن أن يكون مصيرًا تواجه به الأمم في مسيرتها الإنسانية ، قال تعالى ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )) الأعراف : 34 ، فسنة الله في خلقه ثابتة للأفراد و الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا ، فهناك أمةٌ ترتقي و تتحضر و تتواصل في سلم الكمال و الرقي ، وهناك أمةٌ تشيخ و تهرم و تنعزل و تنطوي و تنغلق وتموت ، و لايخفى على أحدٍ ما تمرُ به أمتنا في حالة احتضارٍ نتيجة غياب الوعي الجماعي بمسؤوليتها تجاه الإسلام وما ينبغي لها فعله ، وهذا ما جعله يعود غريبا بين أبنائه لسيرته الأولى قبل بعثة القائد الأول ، لم يبق من تعاليمه سوى الأصداء التي تحاكي المظهر و الشكليات ، بعيدة كل البعد عن الاهتمام بالجوهر الذي يحاكي روح الإسلام في ولادته الأولى .
وإذا ما أردنا أن نكرر تجربة الماضي الفريدة في صناعة الإنسانية ، فإن هذا الأمر لن يكلفنا أكثر من استنهاض الهمم ولم الشتات في سبيل نشر الوعي الذي يأخذ بأيدينا إلى ضفة نصرة المشروع الرسالي والابتعاد عن حالان الانشقاق و التشرذم ، لكي لانعيد تجربة علي في حرب صفين حينما غدر به أقربُ الناس إليه وقتل بدموع شيعته و سذاجة عقولهم و سطحية تفكيرهم .