العراق الذي تعاقبت عليه سلطات الحاكم المطلق وآلية الحزب الواحد والقائد الضرورة تشترك الآن في ادارته حركات وقوى سياسية متعددة تمثل جميع الاتجاهات والمذاهب الفكرية والعرقية والأثنية، تعمل ضمن مضمار استوعبها دون تهميش برغم ما طفى على سطح تفاعلها من خلافات وتباين في الرؤى، وهذه العلامة سجلت لوحدها تساؤلا واستغرابا لدى أكثر دول المحيط الجغرافي وبلدان العالم الثالث والتي أصيبت بالدهشة وهي ترى العراق الذي كان مأزوما بتعدد أطيافه، والمحكوم بسلطة الحديد والنار تتناوب على حكمه ثلاث حكومات ومثلها من البرلمانات المنتخبة، تتخللها أكثر من مائة شخصية وزارية تنتمي الى اتجاهات شتى. وكل ذلك تحقق خلال ثلاث سنوات -بعد سقوط السلطة الجائرة- برغم ما صاحبها من إرهاب واضطراب.
لا شك أن التطور الذي يصاحب كل تجربة جديدة يشهدها عراق ما بعد التغيير، يتأتى من حرص جميع الأطراف المشتركة بالعملية السياسية واصرارها على تثبيت قواعد الحكومة الدستورية، مستمدة الدعم والاسناد من قواعدها الجماهيرية وخبرات أبنائها في المجالات كافة سواءا الدستورية والقانونية أو نظم الحكم. وهذا الهاجس هو الذي سيرسم الخريطة الأساسية للمراحل المقبلة خاصة وأن الفترة المقبلة ستمتد لأربع سنوات وفق استحقاقات دستورية ووطنية مستنبطة من ثلاث تجارب سابقة، حيث لن تكون -وفق هذا المنظور الناضج- جهة مهمشة أو طرف خاسر، فالكل مساهمون في وضع القرار السياسي.. والكل مسؤولون عن تطبيقه، وانجاحه بعدما قبرت المعادلات الظالمة المفروضة بلغة البطش والرعب والتشريد. فنجاح التجربة المتمثلة بنجاح العراق -دولة وجماهيرا- تهون دونها المطامح الشخصية والفئوية، على أن يستمر العمل بتفان ونزاهة وبأساليب حضارية لانضاج المسيرة الجديدة. وبشهادة جميع قوى الخير في العالم الحر فإن انجاز العراقيين يعد قفزة نوعية وطفرة حضارية للكثير من شعوب المنطقة والعالم لكون العراق ينهض للتو متعافيا من حصار طويل وعزلة سياسية عالمية وحروب مستمرة منهكة كانت هي الأعنف خلال نهاية القرن الماضي تسببت باشعالها سلطة جائرة وسياسات خرقاء. وها هي العملية السياسية قد تخطت مراحل الانتقالي والمؤقت وتسيير الأعمال لتضع أولى الخطوات على مسار المرحلة الأهم وهي الحكومة الدستورية الدائمة في أول تجربة رائدة في تاريخ العراق منذ تأسيسه، ومن اللافت أن الأيام الأخيرة التي سبقت تسمية رئيس للبرلمان ورئيس للجمهورية ورئيس للوزراء أو نوابهم قد شهدت حرصا والتزاما واصرارا من قبل جميع المعنيين بالعملية السياسية فرضتها المصلحة الوطنية العليا. بحيث انعكس تأثيره وظهر جليا على الشارع العراقي مما سجل اشارات واضحة بأن الأمر هو أكبر من مسألة تشكيل وزارة. فالمشاورات المكثفة والحوارات المتواصلة المبنية على روح التفاهم بغية حلحلة الأمور وابداء بعض التنازلات حفاظا على الوحدة الوطنية والتوصل الى نتائج مرضية كلها تنم عن حالة صحية مؤكدة أن هذا الإسلوب سيكون نهجا دائما حتى في الفترة التي تعقب تشكيل الحكومة وهذا ما عبرت عنه أجواء المشاورات. ولما كانت الكتل السياسية المشاركة في العملية السياسية قد تفاهمت بعد مشاورات وحوارات مطلوبة ونجحت في الاتفاق على تشكيلة وزارية معينة فهذا يعني أن المرحلة المقبلة مدعومة بأكثر الأصوات تأثيرا في البرلمان، وهذا بدوره ينسحب على القوانين والفقرات الدستورية مثار الجدل والنقاش حيث سيتم معالجتها بنفس الروحية التي سادت أجواء ما قبل تشكيل الحكومة. أما من ناحية وجود كتلة معارضة أو أكثر في البرلمان فهذا لا يشكل سابقة في النظم الدستورية بل على العكس من ذلك فالحكومة القوية تحتاج معارضة قوية تراقب حركاتها وسكناتها وتجعلها في حالة حذر دائمة خوف الوقوع في أخطاء تتمسك بها المعارضة وتلوح بها في كل جلسة برلمانية. كما أن ذلك لا يقلل من أهمية تلك الكتل أو الكيانات كونها جزء من الدولة والحكومة بل قد تكون الجزء الأهم وبمثابة النائب العام الذي تقع على عاتقه مهمة الدفاع عن حقوق الجماهير. من كل ما مر يتضح أن العملية السياسية بثوبها الجديد اسلوبا وطرحا ومعالجات ستستمر في نهجها تسييرا لمهام الحكومة المقبلة وستظل ساحة البرلمان العراقي -وفق هذا النضوج السياسي- مضمارا للتشاور والتحاور والنقاش، وربما الجدل والاحتدام في سبيل إعادة بناء العراق الجديد وتوفير العيش الكريم لشعبه الصابر. هذا الشعب الذي استبشر بالتغيير وساند مشاركا ومساهما وداعما للعملية السياسية وفي كل مراحلها وعبر مهرجانين انتخابيين واستفتاء على أول عملية دستورية حقيقية متحديا كل التهديدات والتفجيرات ومخيبا أحلام أعداء الحرية ممن يحاولون إعادة عقارب الساعة الى الوراء وها هو يتطلع اليوم الى تشكيلة الحكومة الجديدة علها تحمل شيئا من همومه المزمنة وترفع عنه بعضا من الظلامات التي لازمته طيلة حقب حكومات الاستبداد والتسلط الدكتاتوري الشوفيني.
فالمواطن العراقي الذي حلقت به بشائر سقوط الصنم، ورسمت له أحداث زوال أعتى دكتاتورية شهدها القرن العشرين مستقبلا مشرقا، عاد بتطلعاته محبطا يبحث ويسعى للحصول على أضعف الايمان.. فبعدما كان مرعوبا بفقده للحرية والأمن بات مرعوبا من الفوضى وفقدان الأمان، وبعدما كان محاصرا بسبب سياسات البعث الهوجاء صار، محاصرا بامتداده المتمثل بالارهاب والمتعاونيين معه والممولين له، وبعدما كان محاربا بلقمة عيشه، خابت أحلامه بالحصول على العيش الرغيد في وطن يفيض خيرات وثروات وعطاءا.. واستمرت دائرة الحاجة والفاقة والعوز وزادتها عتمة حالة البطالة التي تفشت بشكل خطير بسبب تزايد أفواج العاطلين والتي تضاف سنويا للأفواج السابقة التي شغلها اللانظام السابق في الحروب والخدمة العسكرية التي لا تنتهي، وغير هذا وذلك فالمواطن يتوسم في الحكومة الدستورية الدائمة مزيدا من العزم من اجل تحقيق أبسط احتياجاته في مكافحة الارهاب وبسط النظام، واعادة الخدمات، وتحسين الأوضاع الاجتماعية.
إن الشارع العراقي يتطلع بعد صبره الطويل ومعاناته الأزلية يتطلع بشغف الى قيام حكومة وطنية منسجمة تعمل بتفان واخلاص بروح الخلية الواحدة من اجل معالجة الملفات التي تغص بها دوائر الحكومة كافة ولم تعالج طيلة الفترات الاربع التي أعقبت عملية سقوط البعث، وبسبب قصر الفترات واضطراب الأوضاع والفساد الاداري والمالي .
فإذا كان للفترات السابقة معاذيرها، وإذا كان للظروف استحقاقاتها.. فقد استوفت المرحلة الحالية جميع المعاذير واستغرقت كل الاستحقاقات ،مستفيدة من سابقاتها موعظة واعتبارا، ومن جماهيرها الدعم والاصرار للوصول بالعملية الديمقراطية الى بر الأمان.