انطلق علم الطب والعلوم كلها بصفة عامة في القرن الواحد والعشرين إلى أبعاد وآفاق لم يسبق لها مثيل , فقد اخترع العلماء مختلف الاجهزة الطبية التي من خلالها يستطيع الاطباء تشخيص الامراض ؛ اذ اخترعوا لكل عضو من اعضاء الجسد جهازا خاصا وظيفته الكشف عن ذلك العضو ومعرفة ما يعتريه من فيروسات وغيرها … , كذلك اعتمد الحكماء على معايير لكشف الامراض والعقد النفسية سابقا , اذ جعلوا للكريم وطيب النفس صفات يعرف بها … , وامارات تدل على لؤم المرء وخبث سريرته … , وعلامات من خلالها يميز بين الاخيار والاشرار … وهكذا .
ومن الواضح ان الشدائد تكشف كوامن الأخلاق، وتسفر عن حقائق النفوس، ولهذا كانت العرب تقول: «السفر ميزان القوم» ، لأنَّه يُسفر عن كثير من أخلاقهم وطبائعهم … ؛ فقد لا تعرف حقيقة المرء في مدينته وانما تظهر في الغربة بصورة جلية ومغايرة عما كانت عليه في مدينته , نعم احيانا يجهل المرء حاله ولا يقدر الإنسان أن يختبر مدى جودة أخلاقه واصالة معدنه ؛ إذا بقي في مكان واحد طوال حياته ، بسبب الضغوط والعادات والتقاليد الاجتماعية والمصالح والمنافع الشخصية والعقائد الموروثة والثقافة المحلية الحاكمة … ؛ ولكنه بمجرد الانتقال من وطنه الى الخارج ؛ يستطيع اختبار نفسه من خلال السفر … ؛ فالمسافر قد يمر بصعوبات أثناء سفره ويتعرض لعدة مضايقات وتحديات بسبب اختلاف الاقوام واللغات والثقافات … ؛ فإذا كان ذا أخلاق عالية استطاع التكيف مع الظروف بما لا يتقاطع مع قيمه ومثله الاخلاقية … ؛ ولكن إذا كان ذا أخلاق سيئة بانت حقيقته واتكشف معدنه … ؛ وقد نسبت الى حكيم العراق الامام علي عدة مقولات تدور حول هذا الموضوع ؛ ومنها : (( السفر ميزان الأخلاق )) و ((خوافي الأخلاق تكشفها المعاشرة )) و (( في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال )) … الخ ؛ ففي السفر وتغير الاحوال والظروف تظهر معادن الرجال وتتعرى حقيقة الناس و تكشف اخلاق الانسان ؛ فقد تعاشر المرء وتربطك به قرابة او صداقة او زمالة عمل او غيرها ؛ سنوات طويلة وتأنس به ؛ الا انك قد تصدم به عند السفر ؛ اذ قد تنكشف حقيقة الانسان عندما يبتعد عن مجتمعه وناسه وأهله ؛ لذا قال البعض : من المحال ان تعرف حقيقة المرء من دون ان تسافر معه … .
البعض لا يكتفي بالشر وسوء الخلق الذي يتصف به بل يوصي الاخرين بارتكابه والاتصاف به , فقد جاء في بعض الامثال الشعبية ؛ مجموعة من الامثال تحث المسافر على ارتكاب الاخطاء في السفر وعدم مراعاة الاخلاق في ديار الغربة , ومنها : (( الديرة الما معروف بيه شله و(؟ – ا ز ر ب – ) بيه )) و(( يا مغرب خرب )) فهذه النصائح الخبيثة توصي الغريب والمسافر بالتخريب وعدم مراعاة الاخلاق والقيم الانسانية , فالبعض عندما يفعل السوء ويرتكب الجريمة يعتقد انه لا يرجع الى هذا المكان مرة اخرى او لا يلتقي بالشخص الاخر بتاتا ؛ ولا يعلم ان القدر قد يرجعه الى نفس الشخص او المكان مرة اخرى ؛ لذلك اوصى الحكماء والاخيار والعقلاء بحسن الخلق في السفر , اذ قالوا : (( يا غريب كن اديب )) و (( يا مغرب لا تخرب )) و (( بئرا شربت منه لا ترمي فيه حجراً )) نعم لأنك قد ترجع يوما ما الى نفس المكان وقد تضطر الى التعامل مع نفس الشخص الذي اسأت اليه ؛ فأجعل بينك وبين الاماكن والاشخاص علاقة ايجابية ولا تقطع الحبل مع الاخرين , حتى وان رق وكان كالشعرة ؛ لاحتمال عودة المياه إلى مجاريها في يوم من الأيام , و الرجوع الى نفس المكان ومعاشرة نفس الوجوه .
فلا تعجب عندما تشاهد تحول الشخص الذي يدعي الكرم في موطنه الى بخيل في السفر , فقد يبذخ المرء في وطنه الا انه يصاب بالبخل في السفر , وتراه يحاسب صديقه حسابا عسيرا وعلى اتفه الامور التي ليست لها قيمة مادية مهمة ؛ اذ يدقق في كل فلس يتم صرفه ويحسب حساب تكاليف السفر بالورقة والقلم بشكل مبالغ فيه ، بل قد يتهرب من دفع الفواتير بعدة أعذار… , او قد تراه ينظر الى جيبك فأن صرف هو مئة دولار , اراد منك ان تصرف بنفس المبلغ حتى وان كنت غير محتاج للصرف او ليس هنالك ما يدعو له , وان صرف الف دولار ؛ تمنى ان تصرف مثله وبغض النظر عن اختلاف رغباتكم واحتياجاتكم , فاذا راك صرفت مئة دولار ؛ بادر الى الصرف مثلك , وكأنه مربوطا بك , وان احتجت الى مبلغ بسيط منه وعلى سبيل القرض ؛ يمتنع عن اعطاءه بينما هو قد يعطيك اضعافه في الوطن , بل قد يتباهى ويفتخر بكثرة امواله وقلة صرفك , وكأنه في تنافس معك , والبعض الاخر يمارس الكذب والاحتيال في السفر , فان كان يمتلك الفين دولار , ادعى انه يمتلك الفا فقط , مخافة ان يطلب منه صديقه عند الاحتياج او الضرورة , والبعض يحب ان يدخر امواله ويكون عبئا على صديقه , فيطلب من صديقه كل شيء , بينما هو يمتلك المال الا انه لا يصرف , ولله في خلقه عند سفرهم شؤون , فمنهم من ينكد على صاحبه ويعترض على كل اقتراح , ومنهم مزاجي الطبع متقلب الرأي فوضوي ؛ اذ قد يغير الوجهات السياحية والمطاعم بمزاجه المتقلب ويفرض رأيه على صاحبه ؛ بمعنى أن يتم رسم خطة لرحلة ما وفجأة يطلب تغييرها رغم موافقة بقية الفريق على الخطة السابقة بدون سبب منطقي … , ومنهم من لا يفكر الا بذاته ومصلحته الشخصية ويقدم نفسه على الجميع بما فيهم اصدقاءه واحبابه المقربين , بل ان الكثير من الذين هاجروا قد غدروا بأقرب اصدقائهم واقاربهم لأسباب تافهة وبسيطة ؛ وقديماً كان السفر قطعة من عذاب ولذا كان السفر فعلاً يصهر معادن الرجال ويظهر صبرهم وتحملهم ووقوفهم لجانب من يرافقونه في سفرهم وعدم تخليهم عن اصحابهم ورفاقهم … , فان اردت ان تعرف حقيقة المرء سافر معه ؛ فالسفر يجعلك تُحدد من هم أصدقاؤك فعلاً لأنك لن تعرف الأشخاص على حقيقتهم إلا في السفر وفي مواطن اخرى شبيهة ؛ لذا قيل قديما : الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار ؛ ومن السفاهة الثقة بكل أحد في السفر او السفر مع كل أحد ؛ فهو ليس ميزان الاخلاق فقط بل هو ( سونار ) الامراض والعقد النفسية …!!
والسفر متعة واستجمام وكذلك مسؤولية ؛ فاختَر أصدقاء السفر ورفاق الدرب وخلان الغربة بعناية فائقة ؛ واهرب من اصحاب الطاقات السلبية وسييء الاخلاق والمزاج هروبك من الاسد ؛ فالمرء عندما ينوي السفر ويبذل الاموال ويحزم حقائبه ويترك الاهل ؛ فإنما يطلب الراحة والمتعة والاستجمام وقضاء الحاجة وتحقيق الاهداف ؛ وليس من أجل مصاحبة البخلاء واللؤماء والخبثاء .