23 ديسمبر، 2024 12:08 ص

لم يعد يقوى على مرارة العيش في هذه الأرض بعد أن فقد معشوقته التي ذهبت ضحية حادث دهس على الطريق الرابط بين البصرة والعمارة.
(علي) لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره حين رحلت (خاجية) ، ورحل معها الخير كلُّه، ورحلت معها البركة كلها والرحمة كلها !
شعور اللوعة لم تخفف من وطأته (حنيّة) نسوان المنطقة عليه ، ومناداتهن المستمرة له: (يمه شلونك يمه، أروحنلك فدوة يمه علّاوي ، كلنا أمهاتك يبن خاجية الطيبة)، فقرّر علّاوي على نحو فاجأ أهله وعشيرته أن يمم وجهه شطر دار السلام.
هو حتى لحظة اتخاذ قراره التاريخي هذا لم ير بغداد بعينه لكنه طالما أحسّ بها تسكن في حنايا مخيلته، وتسبح في شرايين فؤاده ؛ فؤاده الغض الذي لم يتصدع بعدُ بحكايات البؤس البغدادية، وتراجيدياتها التي لا تقلّ في وحشتها وكآبتها عن حكايا (المشرّح والمجر وبني هاشم)…
علّاوي ما يزال منتشيًا بخمرة بغداد وسحر لياليها التي لم يحتس من كؤوسها إلا بأذنه فحسب؛ أذنه التي أدمنت سماع مطربي الريف وهم يمزجون الأبوذية الجنوبية بالمقام العراقي ترنمًّا بعروس الرافدين الأولى والأخيرة.
حين اتخذ علاوي قرار الفرار من العمارة كان عقله الغرّ يُهوّن له كلّ المستحيلات ، فهو مستعد لقطع المسافة من مدينته إلى بغداد برجلين حافيتين إذا عجز عن تأمين أجرة القطار، وهو جاهز للمبيت على قارعة الطريق متوسدًا التراب وملتحفًا السماء حتى يطأ الخُضْرة ويستظل بالشناشيل… وقد وطّن علاوي بطنه على عجن التمر بالماء حتى يعض شفتي بغداد، ويأكل ويشرب منهما!
حين وصل أخيرًا إلى مركز العاصمة الشرقي قَصَدَ علّاوي من فوره صرائف الشاكرية، الشاكرية المولعة بخلع أسمائها تزامنًا مع التبدلات السياسية الراديكالية الكبرى في البلاد فهي مدينة الثورة ومدينة صدام ومدينة الصدر، وهكذا…
علاوي لم يُعجبه حال السكّان والعمران في الشاكرية فالحياة هنا صورة مصغّرة لمدينته الأصلية! لهجاتُ الناس أزياؤهم تقاليدهم أعرافهم، وحتى معاركُهم أقربُ إلى العمارة منها إلى بغداد!
وعلى غرار قراره المفاجئ الأول عزم علّاوي على ترك الشاكرية، والتوجه نحو (ذاك الصوب)، وما أسرع أن وجد علّاوي نفسه ضيفًا خفيف الدم في قلب الكرخ، لكن ثمة أمرًا لم يكن يخطر له على بال أجبره على العودة إلى صوب الرصافة ثانية؛ فخانات الكرخ في تلك الأيام المزدحمة بالصبْية والنسوة ترفض رفضًا باتّا أن تؤوي إليها أمثاله من العزّاب الغرباء…
عمل علّاوي فلاحًا في أحد بساتين الرصافة المحاذية لدجلة؛ دجلة التي سافرت معه من العمارة الى بغداد!
لكن علّاوي متغيّر الأطوار والأفكار سرعان ما تضيق الدنيا بعينيه الواسعتين، وسرعان ما تتحوّل روح الدعابة والمرح لديه إلى سوداوية قاتلة كلما داهمته فكرة أن كلّ الذي أنجزه حتى الآن لا يعدو الهروب من مهنة الزراعة في العمارة إلى مهنة الزراعة في بغداد!
بعد بطالة دامت حوالي شهرين، وتجوّلٍ أقربِ ما يكون إلى التسوّل اعتاش بهما علّاوي على عطايا محرم وصفر تمكّن الفتى المكتنز جسامةً ووسامة من العثور على عمل في سوق الهرج، فعمل أجيرًا يوميّا لدى صاحب محل لبيع المواد القديمة.
وهناك سينتمي علاوي بقضّه وقضيضه الى بيئته المهنية الجديدة ، وكيف لا يكون منه هذا السلوك ، وهو ما برح يشاهد بعينيه الزرقاوين نسوةً بغداديات يفقن نساء العمارة حلاوة، ويزدن عليهن أناقًة وتبرجًا وسلاطة لسان!
من المفارقات التي لن ينساها علّاوي أبدًا هي تعرّضه لمحاولة اعتداء جنسيّ فاشلة ارتكبها بحقه رب العمل، تلك المحاولة الآثمة التي انتهت بتحطيم أثاث المحل على رأس المعتدي الوضيع ليستأنف بعدها علّاوي رحلة بحث عن عمل جديد برجاء أن يكون أكثر إنسانية هذه المرّة !
من حسن حظ علّاوي أنّه تعرّف على صديق أمين أرشده إلى مقهى قريب بحاجة إلى عامل نظيف، ولم ينس هذا الصديق الناصح أن يحذّره في الوقت نفسه من مزاج صاحب المقهى الحاد وبطشه المزمن بالعمّال…
ما أن توّلى علاوي زمام السقاية في المقهى الذي سبق بناية وزارة الدفاع إلى الوجود حتى تمكّن باقتدار عجيب من الاستيلاء على قلوب زبائنه الذين بدأت أعدادهم تتزايد يومًا بعد يوم على حساب مرتادي مقاهي الشابندر، والزهاوي.
بل حتى مقهى البرلمان البرجوازية شهدت نزوحًا واضحًا من لدن بعض زبائنها تجاه مقهى الفتى الجنوبي (المدلل)المليح!
لسانه (العمارتلي) الذي تحوّل بسرعة البرق إلى لسان بغدادي (قُح) فتح عليه مغاليق قلوب الرجال والنساء على السواء، فتحوّل معه المقهى المغمور شيئًا فشيئا إلى قبلة لأشهر مطربي المقام، وليغدو بعد فترة وجيزة محطة استراحة مفضلة لدى كبار التجار وعلْيَة المجتمع البغدادي، وأعيانه آنذاك ، بل شهدت بعض (قنفات) المقهى جلوس بعض رؤوساء حكومات الملك نفسه، فضلا عن بسطاء البغداديين الذين وجدوا بغيتهم المنشودة في هذا المقهى البهيج يحدوهم الى ذلك حُسْنُ علاوي، و(دشت حمد زيدان)، وحكايا (القصخون)…
أمّا عن صاحب المقهى العصبيّ المتجّهم فقد انتشى في بداية الأمر لهذا الفتى (العمارتلي) الذي قلب حياته المهنية راسا على عقب أو عقبا على رأس، لكنّه مع مرور الوقت، وتوالي الأحداث بدأ يستشعر أنياب الغيرة وهي تدبّ بأحشائه حقدًا على هذا (الشروكي) المشرّد الذي استحوذ على قلوب الجميع قبل عقولهم!
اعتاد علّاوي بعد غسل المقهى في ساعة متأخرة من الليل على تسليم صحن (الدخل) بما يشتمل عليه من (كواغد وخردة) إلى صاحب المقهى ليبادر هذا الأخير بمنح علّاوي أجرته اليومية التي تتراوح من (عانة إلى عانتين )، ومن ثمّ يقوم صاحب المقهى المرتاب دومًا وأبدًا بالناس بدس محتويات ( الدخل) على عجل داخل ( الصرمايه)، وحدث ذات صباح باكر أن صرخ صاحب المقهى صرخة مجلجلة بوجه علّاوي تأنيبًا له على نسيانه تسليمه (الدخل) في الليلة الفائتة، وقبل أن يُعطيه أيَّ فرصة لتبرير المسألة انهال صاحب المقهى على علّاوي بسيل مقذع من عبارات السبّ والشتائم مصحوبة بتهم السرقة ونكران الجميل وقلة الأصل والشرف يندى له تراب (خاجية)!
حدث ذلك كلّه على مرأى ومسمع زبائن المقهى وأمام العديد من المارّة الذين يعرفون كلاً من صاحب المقهى الحسود وساقيها الودود ، فما كان من علّاوي حينها إلا أن نظر إلى كلّ مَن حوله نظرة اختلطت فيها مشاعر الخيبة والخذلان والانكسار، ليدرك في الوقت نفسه فداحة الخسارة التي أقدم عليها مختارًا حين أدار وجهه عن داره ودار آبائه وأمهاته.
ولأول مرة في حياته عاش علّاوي أجواء الاستغراق بفكرة المقارنة بين ما فقده في العمارة وما وجده في بغداد لينتابه لأول مرّة أيضا شعورٌ عارم بالرغبة في إمساك مسحاة والده، وغرسها في طين العمارة ثانيةً!
لم تُفلح كلّ توسلات صاحب المقهى، ووساطاته في ثني علّاوي عن قراره المصيري الأخير. لم يرجِع طائرُ السعْد إلى المقهى التي آلت بعده إلى مستودع مُعتم لخزن الأخشاب.
بل لم تُفلح في استعادة (المدلل الزعلان) أبدًا كلّ حناجر بغداد التي ما فتأت تغازله: يا كَهوتك(علاوي) بيها المدلل زعلان…
*النصّ مستوحى في بعض تفصيلاته من شخصية عزّاوي ساقي المقهى البغداديّ الشهير.