قطار الذكريات يعد محطات العمر، وهو (يبغج ) بقهر بأعلى صوته؛ معلناً انه على موعد يأخذه إلى أيام الصبا؛ فيتنفس كبرياء الدخان الصاعد من مدخنته ،وصدى صفيره يدوي في كل مكان كلما استوقفته نسمات العمر العابر في الذكريات المحفورة على زمن مضى لم يبق منه سوى اسئلة بريئة يطرحها الانسان كما تقدم به العمر. من تلك الذكريات التي مازالت يخوف بها الآباء الابناء كما مر صالح المضمد بحقيبته السوداء وما تثيره من فضول الكبار، وتبث الرعب في قلوب الصغار. هذا الرجل طالما اتخذه الآباء حجة في تخويف الاولاد المشاغبين، وأن مقصه لا بد من أن يقطع جزءً من عضوهم الذكري، فيعمد هؤلاء الاولاد الى السكينة المؤقتة خوفاً من هذه التهديد والوعيد. وعندما يقطع المضمد صالح طريقه وسط القطاع يسرع أغلب الاطفال للأختباء في أقرب بيت حتى يمر إلى عيادته عند الشارع العام. خلالهذه الجولة الميدانية من البيت إلى العيادة، يحاول قدر الامكان ممارسة لعبته المسلية في إثارة الاولاد من خلال ملاعبة مقص الختان بيده، وأن مصيرهم سيكون قطع تلك اللحمة برغم من توسلاتهم في أن يرحهم ،ويرفق بحالهم؛ لدرجة أن احد الاولاد المشاغبين خانهُ التعبير عندما رأى مقص الختان وهو يقترب منه فقال له توسلا: ” الله يخلي ابوك الميت ” . برغم من مفارقة عبارة التوسل والاستعطاف هذه ، فأنه بادر إلى قص تلك اللحمة وسط زغاريد أمه وحبايبها ، وحين الوصل الأمر للأب إلى أطلاق بعض العيارات النارية من مسدسه احتفالا وابتهاجا بختان ولده الوحيد. أسكته صالح المضمد بقوله : لقد تكفل ولدك بهذا المهمة فلا حاجة بعد لإطلاق العيارات النارية.
برغم أن موعد ختان الاولاد يكون في فصل الصيف دائما ؛لأجل شفاء الجرح سريعا، فأن المضمد صالح كان يفزع أولاد الحي في جميع الفصول ،وعندما يرى أحدهم يقوم بعمل سيء يبادر إلى فتح حقيبته السوداء وأخراج مقص الختان ،والنتيجة توسلات وأغلظ الإيمان في عدم تكرار المشاغبة مرة أخرى مع تواري عن الأنظار عند أقرب باب بيت مفتوح .
كان هذا الرجل الظريف يعمد دائما إلى ابطاء حركة سيره في درابين القطاع ؛ كي يتسلى في ذهابه وإيابه من عيادته إلى البيت في اخافة اكبر قدر ممكن من الاولاد، والرابح في هذا الامر، هن البنات اللاتي لا يخشن الرجل ، بل يمارسن العابهن بكل اريحية لأنهن قد اعفين من شبح مقص صالح المضمد.