18 ديسمبر، 2024 7:46 م

مقعدان -قصة قصيرة

مقعدان -قصة قصيرة

الشمس ما زالت في الأفق الغربي الشمالي، يمكن اعتبارها شمس الغروب لأنها تميل نحو الغروب. شمس تودع الجالسين على مقاعد الحديقة الصغيرة التي تجاور الميناء، أو يودعونها ليلتحق يوم جديد بالزمن الماضي راحلاً من الحاضر، بعد ساعات سيسمى الأمس، وسيتساوى مع ما سبقه من أيام. تتذكر رباعيات الخيام “قد تساوى في الثرى راحل غداً وماضٍ من ألوف السنين”، والأيام مثل البشر يتم وداعها بما تحمل. الوقت يصلح لسماع أم كلثوم في هذا المكان وفي هذا الوقت، لو بإمكانك أن تسمعها الآن وهنا فربما ستكون أول من استمع لأم كلثوم في هذه البقعة من العالم، لا تستطيع أن تستمع لها من الهاتف المحمول لأن الشبكة ضعيفة. وحتى لو أردت أن ترددها بصوتك لتحقيق هذا السبق بأن تكون أول من يُسمِع فضاء هذه البقعة من الكرة الأرضية غناء عربياً ولأم كلثوم، فإنه من غير المناسب أن تصدح بها بصوتك، فلا صوتك يصلح للغناء ولا من يسمعك من المارة القلائل سيرحمك من تهمة الهوس أو خدش الذائقة العامة. رغم أن الشمس تعتبر في مرحلة الميلان نحو الغروب إلاّ أن حرارتها ما زالت مزعجة، فلتبحث عن مقعد ظليل ولكن قريباً من الماء، فلا تريد أن تخسر النظر إلى هذا اللون الأزرق اللازوردي الموشى بانعكاس الشعاع عليه وكأنه ريشة تتحرك مع المويجات التي تحركها نسائم خفيفة دون أن تلحق أذىً بصفاء صفحة الماء الرائقة، وفي الوقت ذاته لا تريد الجلوس تحت هذه الشمس.

هناك مقعدان وقعا في ظل مبنى نادي القوارب المجاور يحققان الشرط الذي تريد، ولكنهما غير متيسريْن، مقعد تحتله صبية منشغلة بشيء ما بين حقيبتها ودفتر صغير على المقعد، تزجر نفسك على الإساءة للصبية بكلمة احتلال، فما ذنبها لتحمل هذه الصفة اللعينة، لعلها تفتش عن قلم لتكتب خواطرها عن هذا المشهد، ولعلها تريد أن تخرج الموبايل لتلتقط صورة للمشهد، ولعلها، ولعلها، وماذا يعنيك في الأمر، ألا تريد أن تودع هذا الفضول الذي يسري في دمك؟ دع الناس وشؤونهم. أما المقعد الآخر فيجلس عليه، جيد ها أنت قد تفاديت الكلمة اللعينة، زوج من المسنين مندمجين في حديث خافت ودي، ربما يتذكران أيام الشباب، وربما يتجادلان في أمر ما، وهذه طريقتهما في الجدل وحتى في النزاع، وربما، وربما. وربما، وربما. لا تشغل نفسك بافتراضات تنبع من حشرية ينبغي أن تستأصلها، هنا لا أحد يتدخل بالآخر، هل تعرف اسم جارك في الطابق ذاته، جارك الباب على الباب؟ دعك من لعل وربما وأخواتهما. تمرّ بجانبهما، تسترق النظر لترى تعابير وجهيهما، كان الوجهان رائقين تماماً، إذن ليسا في جدالٍ حامي الوطيس، إذن غارقان في حديث الذكريات الجميل. ها أنت تعود مرة أخرى إلى حشريّتك، تتخيل نفسك تقترب منهما “مساء الخير يا حاج، جلسة جميلة، كيف الحال؟”، فيدعوانك للجلوس وتتعرف عليهما ويتعرفان عليك، ويعرف كل منكما جذور عائلة الطرف الآخر، ومن أين جاء وإلى أين يذهب؟ تمرّ دون أن يلتفتا لاقترابك منهما، كنت تود على الأقل لو أنهما التفتا، كنت ستلقي عليهما تحية مناسبة تعبيراً عن إعجابك بمشهدهما هذا.

تشغل نفسك بالمشي ومراقبة المكان، المشي والنظر إلى تفاصيل الأشياء وسيلة مناسبة لانتظار أن يشغر أحد المقعدين. الميناء الصغير شبه مقفر من رواده من أبناء البلدة، طلائع السياح وزوار الصيف من الخارج لم تصل بعد على ما يبدو. تتفحص السفينتين الصغيرتين الراسيتين على يمين الرصيف، الأولى من النمط القديم الذي يحركه دولاب يبدو أنه يعمل بالهواء المضغوط في براميل محملة على مؤخرة السفينة، سفينة صغيرة بطابقين، واضح أنها سياحية، كراسي وطاولات وكاونتر للطعام والشراب، يمكن القول إنها سفينة نهرية كالتي تشاهد في أفلام التاريخ الأمريكي. السفينة الأخرى أكبر وربما تكون للنقل والسياحة. وفي نهاية الرصيف عند المطعم الصغير، تلحظ اسمه الإنجليزي الذي يعني مكان الأكل، إنه Eatery وليس Restaurant. بالقرب من مبنى المطعم طفلة تحمل صنارة بسيطة لصيد السمك، مجرد عصا وفي آخرها خيط ينتهي بخطاف صغير. لا بد أنها ابنة العائلة التي تجلس على شرفة المطعم المقابلة للماء. رفعت الطفلة العصا للأعلى وصاحت بانفعال حين رأت في طرف الخيط سمكة صغيرة تتحرك بقوة. نزل أفراد العائلة جميعاً من مقاعدهم في المطعم، وصاروا في حلقة تشاور حيوية، تقف قريباً تراقبهم بفضول. يبدو أنهم قرروا ضرورة إعادة السمكة إلى الماء، لأن لا فائدة منها، فينصب التشاور على كيفية تخليص السمكة من الخطاف بسلام قبل أن تلفظ أنفاسها وإرسالها إلى الماء، صارت الطفلة مركز الحدث وكأن السمكة ابنتها، والجميع يطمئنها ويطلب منها ألاّ تقلق، ينجح الأب بتخليص السمكة ويعطيها للطفلة لترسلها إلى الماء، تقترب من الماء وتنزل السمكة في الماء وتنتظر ومعها العائلة، ثم يحتفلون بصوت واحد، لقد عادت السمكة إلى عالمها وحريتها.

رغم مرور الزمن في مراقبة تفاصيل الميناء، إلاّ أن الفتاة التي وضعت عينك على مقعدها لم تتركه كما تمنيت، ولم يفعل ذلك العجوزان. تختار مقعداً بعيداً عن الماء، تجلس وتخرج الرواية التي بدأت بقراءتها أمس. تتوقف عن القراءة، بقد أن قطعت عدداً جيداً من الصفحات، تطوي الكتاب وتعيده إلى الحقيبة الصغيرة، بينما صور بعض شخصيات الرواية تتبادل مع صورة الصبية والعجوزين، ثم تخلي الصور جميعها المكان لتحتله صورة العائلة التي كانت منعقدة في تشاور حيوي لتساعد الطفلة في مشروعها الكبير في إعادة السمكة سالمة إلى مياهها. صورة حوار الأهل الحيوي واحترامهم لرغبة الطفلة ولطفهم تستدعي أفكار المقارنة، فتحاول أن تقصيها، لكنها تتسلل، (أب يجذب ما تحمله الطفلة ويطلب منها التوقف عن هذا الدلع، فما هذه إلاّ مجرد سمكة صغيرة لا تستحق التفكير، ويشد السمكة بقوة من الخطاف ويلقيها إلى أي مكان ويأمر الطفلة الباكية أن تعود لتجلس مع العائلة، فتطيع وهي تنشج وتمسح دموعها). تقصي أفكار المقارنة، وتقرر أن تخفف من عمل المقارنات في كل صغيرة وكبيرة لأنها تعكّر عليك الاستمتاع والانغماس في كل ما هو هادئ وجميل.

شمس الغروب هبطت وتوارى نصفها، وبقي النصف الآخر عائماً في بحر الشفق الذي يتشكل في الأفق الغربي. المقعدان فارغان، تتساءل “متى غادروا؟” لم تلاحظ مغادرة الصبية والعجوزين. تجلس على مقعد العجوزين تتأمل انعكاس الشفق على صفحة الماء، تلتقط صورة للمشهد وتقرر البقاء لنصف ساعة أخرى لتعوض نفسك عن الفرصة التي خسرتها، وتفكر لو أن الحياة قادرة بهذه البساطة على تعويض الخسارات. تقرر أن تغلق أي باب يؤدي إلى المقارنة التي ستحرمك من تشرُّب كل جزئية من هذا الهدوء والجمال وترك نفسك في وضع انعدام الوزن بالتخلص من همومك وتعطيل كل مصادر التنغيص التي تطاردك.