17 نوفمبر، 2024 1:33 م
Search
Close this search box.

مقدمة في الديانات القديمة المنشور الثالث

مقدمة في الديانات القديمة المنشور الثالث

اذا اعتبرنا – اتفاقاً مع المنهج الفلسفي العقلي – ما جاءت به العقيدة المصرية من انّ الاله ( نُون ) هو الذي أفاض الحياة وكان وجوداً متفرداً ، سيكون لزاماً علينا اعتبار ( اتوم ) هو المخلوق الاول ، والذي ظهر على التل الأزلي ( تاتنن ) . ومن ( اتوم ) ظهرت باقي الآلهة او المخلوقات .

انّ هذا المعنى يقابله في الخطّ الديني الرسولي العام المخلوق الاول ( آدم ) . وقد ربط بعض الباحثين بينهما فعلاً كما ذكر ياروسلاف تشيرني ، باعتبار انّ ( آتوم ) هو لهجة مصرية عن ( آدم ) ، وكذلك اسم ( آتوم ) في اللغة المصرية القديمة أخذ معنى ( الكامل ) ، وربما هو ما يشير الى فكرة الاصطفاء التي جاءت في القران الكريم لآدم واختياره (( انّ اللَّهَ اصطفى آدم )) ، وهو كذلك يشير الى معنى وجود انواع اخرى من البشر أقلّ اكتمالا من آدم ، لذلك تمّ اختياره دونهم لاصطفائه بالرسالة الإصلاحية واستعمار الارض ، وتم زقّه بالعلوم والمعرفة ، فكان هو مصدر الفيض المعلوماتي لبني الانسان ، فربطته الأسطورة المصرية بالإله مباشرة .

وقد وصفت الادبيات المصرية القديمة ( آتوم ) بالأوحد والأقدم والذي أتى الى الوجود بنفسه ، كذلك أطلقت عليه ( سيد الجميع ) . وفي تاسوع ( هليوبولس – منف ) كان ( آتوم ) هو اللسان والقلب ، حيث كانت بداية الخلق من اللسان والقلب ، ومظهر ذلك الخلق كان الإلهين ( حورس ) و ( تحوت ) .

وأنّ ( آتوم ) كان هو من نطق الأسماء الاولى للأشياء . وهذا المعنى الأخير ورد في النص القرآني كذلك (( وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِى بأسماء هؤلاء إِن كُنتُمْ صادقين )) .

انّ ( تحوت ) الذي هو مظهر من مظاهر ( آتوم ) يقابله في الادبيات الإبراهيمية ( إدريس ) عليه السلام ، حيث أعطت الأساطير المصرية له ذات الخصائص التي تم اعطائها لإدريس في العقيدة الإبراهيمية . فقد جاء في المصريات القديمة انّ ( تحوت ) كان اله ( الحكمة والمعرفة ) و ( العارف ) و ( المتمرس بالمعرفة ) ، كما وصفته ب ( سيد السحر ) و ( المجلل بالأسرار ) ، وهذان الوصفان الأخيران ربما كانا تلخيصاً للعلوم التي زقّها ادريس في عصره دون ان يكون لها سابق فأخذت معنى غامضا . كما وصفت الأسطورة المصرية ( تحوت ) بانه مخترع الكتابة وواضع القوانين وكذلك الناموس التقليدي للكتب المقدسة . انّ هذا الوصف لتحوت قابله في النص الإبراهيمي الوصف الخاص ب ( إدريس ) ، حيث جاء ما مضمونه ( انّ ادريس اولّ مَن خطَّ بالقلم ) ، كما نقل صاحب بحار الأنوار ، الذي أضاف انّ اليونان يسمونه ( هرمس الحكيم ) ، وما يؤيد كلام صاحب البحار انّ الإغريق أطلقوا اسم ألههم على مدينة ( الاشمونين ) التي تمّ فيها تقديس ( تحوت ) فسمّوها ( هرموبوليس ) . وقد وجدتُ لهرمس كتاباً فيه حكمته وعقيدته وفلسفته ، حيث أخذتْ أثراً من عقائد الماضين على مختلف اصقاعهم كما أورد صاحب كتاب ( متون هرمس ) . كما أشار صاحب بحار الأنوار – ومصادر اخرى – انّ اسم ادريس أيضاً ( اخنوخ ) ، وقد وجدتُ لاخنوخ قصصا وأساطير في عقائد تاريخية عديدة . وينقل العلامة المجلسي عن السيد ابن طاووس انه قال : ( وجدت في كتاب مفرد في وقف المشهد المسمى بالطاهر بالكوفة عليه مكتوب ( سنن ادريس ) عليه السلام وهو بخط عيسى نقله من السرياني الى العربي عن ابراهيم بن هلال الصابئ الكاتب … ) . وجاء ايضا ( مسجد السهلة بيت ادريس عليه السلام الذي كان يخيط فيه ) .

ومن ملاحظة هذه الإيرادات جميعا نستشف وجه تقديس ادريس عليه السلام – بمختلف مسمياته – لدى شعوب الارض ، فهو من علّمهم الخط ، وكذلك من زقّ المعرفة والعلوم . ويمكننا بعد ذلك حلّ الإشكال التاريخي بين مصر والعراق حول الذي كتب الحرف الاول ، فكلا الشعبين يريان انّ ( ادريس / تحوت / هرمس / اخنوخ ) هو من فعل ذلك .

ومن قصة تحوت يمكننا ان نلج الى ما يدعم الرأي القائل بأنّ ( آتوم ) هو ذاته ( آدم ) حيث التشابه العجيب بين قصة ابني آدم التي أوردتها الأديان الإبراهيمية وبين أسطورة اوزيريس وست الإلهية المصرية . فقد ورد في القران الكريم (( وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْءَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ )) . فيما جاء في أسطورة ( اوزيريس وإيزيس ) المصرية ما مضمونه ( انّ اوزيريس كان يحكم في سالف الزمان على الارض ، ونشر في أرجائها أعماله الخيرة ، لكنّ شقيقه ست دبّر له مؤامرة واغتاله خلسة . وبعد ذلك جمعت اختاه إيزيس ونفتيس اشلائه من المواقع التي وجدت فيها ، واستطاع ان يُمنح قوة التناسل بمفعول السحر الذي برعت فيه إيزيس . وكان من نتائج هذا السحر ان حملت منه إيزيس وانجبت له ابنهما الاله حورس ، الذي هربت به خوفاً من عمه الاله ست وشروره . حتى كبر وأصبح قوياً كفاية ، فانتقم لأبيه بمساعدة أمه ، فحكم مكانه . وقد خاض حورس مع عمه معارك عنيفة جداً ) .

انّ الأصل المشترك للقصتين يمكن فهمه من معرفة انّ الوسيط الذي أنهى هذا الصراع الكبير هو الاله ( تحوت / ادريس ) ، بحكمته عمد الى تهدئة النزاع بين الإلهين المتقاتلين ( حورس وست ) ، وهو كذلك من شفى عين حورس لتعود بارئة .

ولفهم اكبر يمكننا تلخيص مجمل القصة بالمعنى الذي أورده السيد سامي البدري – ذلك الباحث الفذ – عن نشوء الحضارة القابيلية قبالة الحضارة الآدمية الشيتية . حيث انّ ( قابيل ) و ( شيت ) في الموروث الإبراهيمي هما ابنا آدم ابي البشر ، وقد كان قابيل ( يقابل ست في الموروث المصري ) قد قام بقتل أخيه هابيل ( يقابل اوزيريس ) ، وكان شيت الابن الاخر لآدم ، والذي يقابله في الأسطورة المصرية ( حورس ) . انّ قابيل بعد قتله لأخيه لم يعد له مكان في الجماعة الصالحة الآدمية ، لذلك انتقل لتأسيس جماعة خاصة به ، وهو على كونه ابناً لآدم وقد أخذ من علومه لكنّه حمل بذرة الانحراف بعد مقتل أخيه ، الذي أنشأته الحسد والأنانية ، فكان من المنطقي قيام حضارة قابيلية تجمع بين مظاهر التوحيد الآدمية وبين نتائج الانحراف النفسية لقابيل ، فبدأت أولى الحضارات المنحرفة العقيدة .

وقد كانت هذه الفرصة ذهبية لاختراق عالم الادميين من قبل حضارات وجماعات اخرى ظاهرة او خفية ، متقدمة علمياً او بدائية ، فبدأ قيام الحضارة الدينية العكسية ، التي تجمع بين الموروث القابيلي والموروث البدائي والموروث غير البشري ، فكان ما أنتجته خليطاً عجيباً وملوثاً ، ومن الطبيعي ظهور الطقوس المبتدعة والصفات المغلوطة للإله .

في المقابل كانت هناك الحضارة النقية الآدمية التي يقودها شيت ، والتي ارادت دفع الحضارة القابيلية بعيداً للوقاية من شرورها ، فنشأ الصراع الحضاري الكبير والعنيف بينهما ، حيث ارادت الحضارة القابيلية أيضاً السيطرة وفرض معتقداتها ، وطمس الجرح الكبير في مسيرة الادميين الذي أوجدته فعلة قابيل بقتل أخيه . وقد استمرّ الصراع كما يبدو طويلاً ، وبصورة عنيفة ، حتى ظهر ( ادريس ) وعمل على إيقافه وتهدئة قادته ، من خلال حكمته ، ولأنه كان يحمل هدفاً أسمى في توحيد البشرية وتهذيبها ، لذلك تجاوز قساوة المجتمع القابيلي ، رغم انه شخصياً كان جزءاً من المجتمع الشيتي الآدمي . وقد جاء في الأسطورة المصرية انّ تحوت كان كاتب الآلهة الذي يستشيرها في الحكم بين المتصارعين على العرش ، لكنّه كان ينحاز دائماً الى جانب الحق حيث ( حورس ) .

وَمِمَّا يؤيد هذا الاختيار انّ ( الهكسوس ) – وهم من أصل عراقي – وحّدوا بين ( ست ) وإلههم ( سوتخ ) ، حيث أقاموا له المقابر في مدينة ( اواريس ) ، وصاروا يستخدمون الاسمين للدلالة على مقصود واحد .

انّ الرؤية الدينية الإبراهيمية تثبت دائماً وجود مخلوقات بُعدية في عوالم اخرى خفية ، لذلك حملت عنوان ( الجآن ) بمعنى المخفي او المراوغ ، يقودها كائن ذو قدرات خاصة اسمه ( ابليس ) ، ولقبه ( الشيطان ) ، وهو اول أعداء آدم بعد اصطفائه ، بسبب الانانية والحسد ايضا . لذلك كان من الطبيعي استغلال هذه المخلوقات للمجتمع القابيلي البدائي ، وفتح الصراع من جديد مع المجتمع الآدمي ، فكان هناك تبادل نفعي بين الحضارتين القابيلية والابليسية ، حيث قابيل يفتقد الى الدعم الذي حظي به المجتمع الآدمي سماوياً بعد انشقاقه وانسلاخه .

لكن كان من الطبيعي جداً ان تسعى الحضارة القابيلية لتحسين الصورة السيئة لمؤسسها ( قابيل ) وجعله محترماً كبقية اخوته ، لذلك تمّ ادخال ( قابيل / ست ) كإله في مجمع الآلهة المصرية ، وكذلك في مجامع آلهة لشعوب مختلفة اخرى ، بعد انتشار هذه الحضارة في عموم الارض ، من هنا كانت أسطورة ( اوزيريس وإيزيس وحورس وست ) نسخة متلاعبة عن قصة ابني آدم الإبراهيمية ، لتحسين صورة ( قابيل / ست ) في الذاكرة البشرية .

انّ المجتمع المصري القديم الذي ربما لا يشترك شكلاً مع المجتمع الآدمي العراقي – الملامح الشرق اوسطية – ، حيث تظهر المومياوات جنساً يجمع الى حد كبير من حيث الهيئة بين الميديترانية المتوسطية وبين النوبية الجنوبية ، قد أخذ المعرفة عن المجتمع الآدمي الشيتي ، او انه اختلط بالمجتمع القابيلي .

· بمناسبة زيارة بابا الكاثوليكية فرانسيس الى العراق

أحدث المقالات