18 ديسمبر، 2024 6:55 م

مقدمة تعريفية برواية الحياة كما ينبغي

مقدمة تعريفية برواية الحياة كما ينبغي

صدر مؤخرا للروائي والأكاديمي الفلسطيني د. أحمد رفيق عوض رواية بعنوان “الحياة كما ينبغي”، وتقع الرواية في (172) صفحة من القطع المتوسط، وتتألف من ثلاثة وعشرين فصلا قصيرا. وبذلك يصبح في رصيد الكاتب تسع من الروايات التي عالجت كثيرا من القضايا الاجتماعية والتاريخية والسياسية والفكرية.

تتحدث الرواية عن تفاصيل عملية عسكرية ضد دورية من دوريات الاحتلال في المنطقة الواقعة بين يعبد وعرابة، نفذها فلسطيني من قرية يعبد في آذار عام 2022، يطلق عليه اسم راشد المحمود، وترصد الرواية مراحل العملية العسكرية، ودوافعها، وتنفيذها، ونتائجها وتداعياتها، ويغلب على الزمن في الرواية التتابع التقليدي (الكرونولوجي)، مع بعض الارتدادات القليلة في الاستعادات الزمنية السابقة (التذكر والاسترجاع).

أما المقاوم راشد، فإنه يستطيع أن ينفذ عملية ناجحة، يذهب ضحيتها ضابط كبير من جنود الاحتلال، يفلح في التخفي، ثم الوصول إلى مخيم جنين، يستطيع جهاز الشاباك التعرف على منفذ العملية، فيهدمون منزله، ويعتقلون أمه وأباه، هذا المقاوم غير مؤطر تحت أي تنظيم أو فصيل سياسي، على الرغم من أن من ساعده شخصان، متدين وعلماني؛ إشارة إلى تنظيمين مختلفين. كان قد تعرّف إليهما خلال مدة سجنه.

هذه الشخصية تنتمي إلى الأغلبية المقهورة التي عانت من الظلم، يعمل سائقا لدى أحد التجار، موزعا للبضاعة، فقد حكم عليه خمس سنوات عام 2015، بتهمة ملفقة؛ محاولة طعن جندي على حاجز الحمرا، خلال رحلة العودة من العمل، يخرج من السجن ولديه الرغبة في الانتقام، وتنفيذ عملية، يتزوج وينجب ولدا، وينخرط في العمل، تتجدد رغبته، ويتم عمله، وينفذ عمليته.

تداعيات العملية واضحة، وتمثلت في سياسة المداهمة، وحصار القرية التي يتم مداهمتها، والاعتقال الجماعي، والاشتباكات ووقوع ضحايا، وتسير هذه الإجراءات من العقاب الجماعي مع الجهود المخابراتية في تتبع أخبار العملية بكل ما أوتوا من قوة وإمكانيات.

أضاءت الرواية وناقشت الظروف الموضوعية، الفردية والجماعية الدافعة لأن يقوم الفلسطينيون بأعمال مسلحة ضد الاحتلال، وترى الرواية أن بإمكان المقاومة زحزحة الوضع السياسي الراهن المتجمد، ليحرز الفلسطينيون بعض المكاسب السياسية، إذ لا أحد يحارب من أجل الحرب فقط، كما أن الفلسطيني لا يستطيع أن يكون “حيوانا” عاملا، يأكل ويشرب وينام، ويمنح الاحتلال “الهدوء مقابل العمل”، كما جاء في الرواية.

كما بينت الرواية العوامل الموضوعية في نجاح المقاوم في التخفي والتسلل إلى مخيم جنين، ولخصتها الرواية في جملة من الأسباب، وهي: الاحتياطات الأمنية، ودراسة كل العمليات السابقة التي تم فيها إلقاء القبض على المنفذ أو اغتياله، أو تصفيته، وتجنب الخطأ القاتل لأولئك المناضلين، وعدم استخدام الهاتف المحمول في الاتصال بأي أحد من المعارف أو الأقارب، وتجنب الاستعراض والتباهي الزائف، وعدم تبنّي العملية من أي فصيل سياسي، والتكاتف والتعاضد والحس الجماعي والأمني، والحذر من أي تصرف يمكن أن يؤدي إلى انكشاف المنفذ أو إعدامه.

عدا البطولة الفردية التي مثلها راشد المحمود ومقاوم آخر؛ قتل جنديا محتلا خلال مداهمات الاحتلال لبلدة يعبد، ركزت الرواية كذلك على البطولة الجماعية، وخاصة خلال مداهمة الاحتلال لبلدة يعبد، ومشاركة الناس بأعمال المقاومة بدءا بالتكبير وضرب الحجارة وانتهاء بالاشتباك المسلح وإيقاع ضحايا في صفوف الأعداء، والوقوف مع من هدمت منازلهم، واحتضان أهالي المخيم للمقاومين، بمعنى توفر هذه البطولة الجماعية حاضنة شعبية دافعة للاستمرار في المقاومة، ولولا هذه الجماعية لما استطاع المقاومون البقاء في المخيم، ولما استطاع زيد أن يتمّ عرسه أيضا في المخيم ذاته؛ مخيم جنين.

على الطرف المقابل هناك شخصيات تمثل الاحتلال، وتكشف عن مواقف شخصياته الأمنية والسياسية، وتومئ الرواية كذلك إلى شيء من الاختلاف الحاصل في المجتمع “الإسرائيلي” بثنائيته التقليدية بين اليهود الأشكناز (الغربيين) واليهود الشرقيين، والحساسية التي يعاني منها كل طرف تجاه الطرف الآخر، وكان لهذه الثنائية الضدية التي عرضتها الرواية بتداخل اجتماعي واقعي أن تغير مجرى الأحداث قليلاً، وأن تؤثر في الرؤى لرجل المخابرات “أبو السعيد”، وربما كانت هي إحدى العوامل التي دفعته لارتكاب جريمتين في اللحظة ذاتها.

وتفسح الرواية مجالا للتعرف على رد فعل الجمهور “الإسرائيلي” على العمليات التي ينفذها جنود الاحتلال عقب كل عملية عسكرية ناجحة فلسطينية، وتشكل أداة ضاغطة على جنود الاحتلال وعناصر الشاباك، وكلما تأخروا في تحقيق الأهداف، يشنون هجوما على المسئولين عن ذلك، فيصفونهم بالفشل، وبالمقابل يحاول هؤلاء المسئولون إسكات تلك الأصوات بتحقيق مكاسب غير حقيقية، وليست هي المطلوبة من هذا الجمهور، لقد أصبح هذا الجمهور مزعجاً جدا للمستويين العسكري الأمني والسياسي.

تتمتع الرواية بحبكة متماسكة، ويحكمها منطق سردي قائم على الإقناع، وتتنوع فيها إيقاعات السرد بين الهادئة والمتوترة، حسب المشاهد المتحدث عنها، ما أكسب الرواية تشويقا ظاهرا في تتابع حركة الأحداث وتطورها، فقد كان السارد حريصا على أن يظل متحكما بخيوط اللعبة السردية، وانزلق أحيانا السارد إلى التفسير السياسي للحدث عبر مجموعة من التدخلات الخارجة عن المنطق الروائي، ليظهر صوت الكاتب واضحاً خلال تلك التدخلات، وتراوحت تلك التدخلات بين الجملة القصيرة، إلى أن تصل أحيانا إلى عدة جمل متتابعة، إذ يسكت الكاتب سارده، ويسيطر عليه؛ جريا وراء شهوة الحديث السياسي أو التغزل بالأرض والشجر، وصناعة المشاهد الشاعرية.

كما امتازت اللغة بالتنوع المفتوح على معجم لغوي يمتح من الطبيعة ومفرداتها والحياة الفلسطينية، وممتزج بملامح شاعرية بحكم الحديث عن الطبيعة بجانبها الجمالي العاطفي والوجداني، بالإضافة إلى البعد السياسي والعسكري في هذه اللغة حيث اقتربت اللغة من الوصف المباشر بمفردات تنحو نحو الوصف والسرد الذي لا يحمل إلا فكرته بدلالاتها المباشرة التي اقتربت أحيانا من اللغة الصحفية أو لغة التحليل السياسي أو لغة الأخبار. وبقيت اللغة ذات مستوى واحد على الرغم من تعدد الشخصيات بين عربية وعبرية، وبين المختلفة في مستواها الثقافي، وابتعدت اللغة أحيانا عن واقعيتها التي تمنح السرد فعالية وسلاسة خلال بناء الأحداث وتطورها. وظلت تكتسي الرواية بملامح أكاديمية، حريصة على ألا تنزلق عن مستوى لغة الكاتب نفسه.

تستبعد الرواية من متنها التعرض للجانب الرسمي الفلسطيني، فلم يظهر للسلطة الفلسطينية أي دور، سلبا أو إيجاباً، كأن هذا الغياب السردي معادل موضوعي لغياب التأثير الفاعل على الأرض من السلطة الفلسطينية التي أصبحت في السنوات الأخيرة، لا علاقة لها بهذا الجانب من المقاومة، واقتصر دورها كأي نظام عربي عاجز أو متواطئ على الشجب والاستنكار، كأن الشعب شيء آخر، وهم حكام لشعب مختلف، فهذا الدور الباهت للسلطة الفلسطينية في الواقع قابله حذف بالكامل من مشهدية الرواية.

وعلى أية حال، فأهمية الرواية تكمن في أنها ترصد الحالة السياسية الراهنة على جانبي الصراع في فلسطين المحتلة، وحالة الإحباط التي أصيب بها الفلسطينيون جراء ما يعانونه من تعنت “إسرائيلي” وحشي، يناصره جمهور ليس أقل منه تطرفا وعنفاً، بل إن هذا الجمهور يطالبه بالمزيد من التنكيل بالفلسطينيين للمزيد من الإخضاع والإذلال، ولكنها مع ذلك تحاول أن تقدم حلولا أو تشير إليها كون كاتبها أكاديميا سياسيا، يستخدم الرواية للتعبير عن وجهة نظره وقناعاته السياسية. وبهذا يمكن أن تصنّف هذه الرواية على أنها رواية سياسية، وظفت الحكاية وأحداثها لخدمة ما تحمله من رسائل سياسية، هذه الرسائل والأفكار التي خصصت لها وقفة خاصة سأناقشها بالتفصيل، محاولاً تفسير البنية النصية ومآلاتها الفكرية، واندماجها مع وجهة نظر الكاتب السياسية.