23 ديسمبر، 2024 2:54 ص

مقتل سليماني ومعادلة الردع الجديدة في نظام الامن الاقليمي !!

مقتل سليماني ومعادلة الردع الجديدة في نظام الامن الاقليمي !!

هذا الحدث لم يكن عادياً وفق اي قياس ، بل هو نقطة تحول ستراتيجية في معادلة الردع الامريكية – الايرانية بعد ان ساد هذه العلاقة الكثير من التشويش وعدم الوضوح ، وكانت الصيغة العامة قد استقرت عند معادلة مفادها : اي استهداف امريكي لايران سيكون اشارة البدء برد عسكري إيراني شامل يستهدف وجود ومصالح الولايات المتحدة اضافة الى حلفائها في المنطقة .

لقد جاءت عملية تصفية سليماني في عملية عسكرية امريكية نفذها الجيش الامريكي ، وهي خيار من ضمن خيارات اخرى قدمها الجيش الى رئيس الولايات المتحدة الذي امر بها . هذا المعطى وضع معادلة الردع الايرانية موضع تساؤل !! ثم جاءت عملية الرد الايراني الباهتة على النحو الذي رأيناه لتعلن ان معادلة الردع هذه قد اصبحت معكوسة ، وفِي إعلانات امريكية واضحة ، بعضها سبق عملية الرد الايراني وبعضها أعقب تلك العملية ، حلت معادلة جديدة – قديمة يبدو ان الجانب الايراني لم يكن قد فهمها جيداً قبل تنفيذ عملية تصفية سليماني .

الملفت في النظر هو ان الجانب الايراني الحذر المتحسِّب ، وخلافاً للمعهود ، قد وقع ضحية سوء تقدير للنوايا الامريكية ؛ امر اثار تساؤلات المراقبين ودفعهم الى ترجيح نظرية مفادها ان الولايات المتحدة ربما تكون قد وفرت عن نية مسبقة كل العناصر التي استدرجت الايرانيين الى هذا الخطأ ، والوقوع في مطب ستراتيجي سيكون بداية مرحلة جديدة في اعادة ترسيخ النظام الأمني الاقليمي وفق رؤية امريكية ، وهو ماقد يكون بداية تآكل لنفوذ ايران وهيبتها في المنطقة ، دون الذهاب بعيداً حد إلغاء دور اقليمي محدد يبقي ايران عامل توازن مع نزعة القومية والاستقلال في العالم العربي .. هذا يمكن فهمه في سياق ماجرى منذ انسحاب ترامپ من الاتفاق النووي ، ولعل الموقف في معطياته العامة يشبه الى حد كبير ماجرى قبيل الحرب العالمية الثانية حين اقدم هتلر على اجتياح پولندا وهو مقتنع تماماً ، في ضوء ردود الفعل الباهتة للحلفاء التي سادت سياساتهم تجاه احداث مثيلة قام بها هتلر ضد النمسا وچيكوسلوڤاكيا قبل ذلك ، ان ردود الافعال بشأن پولندا لن تخرج عن السياق العام لردود افعال الحلفاء التي سبقت ذلك .. كانت المفاجأة ان الحلفاء قد أعلنوا الحرب بشكل غير متوقع ، والبقية معروفة ولعل أهمها ان سوء التقدير قاد هتلر الى تدمير المانيا ، ثم تمت اعادة بنائها في اطار التوازن مع القوة السوڤيتية – الروسية .

توقع الكثيرون في شهر حزيران عام ٢٠١٩ ان يكون هنالك رد امريكي على اسقاط طائرة تجسس امريكية ثمينة أسقطتها الدفاعات الجوية الايرانية تحت ذريعة انها اخترقت الاجواء الايرانية ( وهو امر نفاه الجانب الامريكي ) ، وأعلن الرئيس ترامپ انه أوقف ضربة امريكية محدودة على خلفية ماقد تسببه من خسائر في الأرواح على الجانب الايراني ، وان سياسة ” الضغط الاقتصادي الأقصى ” تؤتي اكلها ولاحاجة لتصعيد الموقف عسكرياً ؛ ذريعة اعتبرها المراقبون تهاوناً في الموقف من جانبه ؛ لقد جرت العملية وكانت ايران تواصل التدخل في حرية الملاحة النفطية وحجز وتفجير ناقلات نفط غربية وخليجية دون ردود فعل من الولايات المتحدة او خلفائها خلافاً لمبدأ راسخ اعتمدته السياسة الامريكية منذ الحرب العالمية الثانية ، وفِي غضون ذلك ايضاً تعرضت منشأت شركة ارامكو النفطية السعودية في ايلول ٢٠١٩ لضربة دقيقة نفذها الحوثيون بمزيج من الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة سادت القناعة لدى الجانب الامريكي انها عملية ايرانية ربما تكون قد انطلقت من ايران ذاتها ( او من اليمن على يد خبراء ايرانيون ) ، وقد ادت الضربة الى انخفاض صادراتها النفطية الى النصف ، وهو موقف خطير ويدعو الى التساؤل عن السبب في مروره دون ردود امريكية .

يلاحظ مراقبون امريكيون ان الفترة التي اعقبت سلسلة الاحداث هذه ، وقدرة ايران على المبادرة دون ردود من جهة ، وقدرتها على احتواء احتجاجات شعبية شهدتها ايران واخرى تشهدها الساحتان العراقية واللبنانية .. كل ذلك أغرى ايران بالاندفاع بثقة أكبر في اطار المواجهة مع الجانب الامريكي الى الحد الذي دفعها الى تصعيد الموقف تحت تأثير الضغوط التي تتعرض لها جراء العقوبات الامريكية ؛ بدأت فصائل الحشد الشعبي العراقية الموالية لايران ، ومنها بشكل خاص حزب الله العراقي الذي أسسه المهندس ، باستهداف القوات الامريكية في عدد من المعسكرات العراقية مثل قاعدة K1 في كركوك وعين الأسد غربي الأنبار ومعسكر التاجي شمالي بغداد ، وقد أسفرت احدى عملياتها عن مقتل متعاقد امريكي الجنسية ، وجاءت ردود الفعل الامريكية وفق ماتوقعته ايران ، وذلك من خلال عدد من الغارات الجوية أسفرت عن مقتل عدد كبير من افراد المليشيا العراقية وعدد من ضباط فيلق القدس في منطقة القائم ، وكانت الضربة موجعة كما يبدو الى الحد الذي دفع بعض فصائل الحشد الى تنظيم مظاهرة توجهت نحو السفارة الامريكية في محاولة لاقتحامها في اليوم الأخير من العام الماضي وسط تهاون ملحوظ من جانب قوات الامن العراقية ؛ تم اقتحام السياج الخارجي وأضرمت النار في الفناء الخارجي للسفارة ومكتب خارجي صغير للاستعلامات خارج المبنى الرئيسي الذي كان خالياً باستثناء قوة الحراسة من افراد المارينز الامريكي ؛ والامر الملفت كان حضور بعض قيادات الحشد الشعبي مثل المهندس والخزعلي والفياض واخرين في علامة تحد واضح .

اذا مادققنا حصيلة المواجهة حتى تلك اللحظة فانه من الواضح ان دماءاً امريكية قد اريقت وان منشأة يرتفع فوقها العلم الامريكي قد انتهكت ، وهذان عنصران جديدان لم يصلا في اطار المواجهة حتى تلك اللحظة ، لذلك جاء الرد الأمريكي على غير المعهود ، تمت تصفية سليماني واخرين في عملية مفتوحة معلنة تبناها نفذها الجيش الامريكي بأمر من الرئيس ، ومن هنا كانت المفاجأة لايران وخارج حساباتها رغم وضوح الإعلانات الامريكية المتكررة بانها سترد اذا استهدفت ارواحاً او منشآت امريكية ، وهو امر بدا لايران بعيد الاحتمال وفق السياق الذي جرت عليه الامور الذي لم يقرأ كما يجب .

سليماني لم يكن فرداً او جنرالاً فحسب ، بل هو تجسيد لسياسة ايرانية اقليمية تمتد من أفغانستان حتى اليمن مروراً ببغداد ودمشق وبيروت ، وهو يمثل شخصية تم الاستثمار في صناعة كاريزما خاصة لها اوصلتها الى حدود الأسطورة ، ويرجح المراقبون انه لن يكون هنالك سليماني اخر لانه لامكان في ظل معادلة الردع الجديدة لرمزية كهذه .

اياً كانت خيارات ايران القادمة فانها ستكون اكثر حذراً واقل اندفاعاً في تحركاتها الاقليمية ، رغم انها قد تمضي فترة انتقالية من تصعيد نشاطات أدواتها الاقليمية ؛ لكنها ستضطر في نهاية المطاف الى الجلوس الى مائدة مفاوضات تقبل من خلالها اجتثاث برنامج التخصيب النووي مقابل احتفاظها بالحق في استخدام سلمي لهذه الطاقة ، كما ستقبل بنزع لأنواع معينة من اسلحتها الصاروخية وتحديد دورها في المنطقة والعراق بشكل خاص بما لايتعارض مع وجود امريكي مستمر الذي تقتضيه اعتبارات جيوستراتيجية تتعلق بالتوازنات الدولية ،، خلاف ذلك ، او الوقوع في سوء تقدير جديد مثل المناورة والتعويل على عدم فوز ترامپ بدورة رئاسية جديدة فانه سيكون نوعاً من العبث ، لان ماجرى في قضية سليماني هو عمل مؤسسي امريكي وليس نزوة رئيس فحسب ، بل لعل الرئيس كان اقل المتحمسين للمواجهة !!