متوقع وعادي وطبيعي أن يغضب الوليُ الفقيه، وأن يهدد قادة حرسه الثوري أمريكا بالانتقام الشديد.
ومتوقع أيضا أن يملأوا شوارع طهران بالمسيرات الباكية اللاطمة الهاتفة: “الموت لترامب”،”الموت لأميركا“.
ومتوقع كذلك أن ينضم قادة المليشيات العراقية وحكومة عادل عبد المهدي إلى مواكب المستنكرين والمنددين والمهددين، رغم أن أحدا من كل هؤلاء، جميعا، لن يفعل شيئا ذا قيمةِ إيذائية حقيقية بالقواعد والمؤسسات والشخصيات الأمريكية في العراق والمنطقة، وذلك لأنهم جميعا فهموا أن الرئيس الأمريكي ترمب غير باراك أوباما، وأن زمن التهديدات الكلامية والتحذيرات الديبلوماسية عبر الأطراف الثالثة الوسيطة قد انتهى، وحل محله زمن الضرب الموجع، وربما المميت، وبدون انتظار، ليس لحفظ هيبة الدولة العظمى وسمعتها فقط ، بل لإرضاء الداخل الأمريكي الذي يحتاج إليه أي سياسي وأي حزب أورئيس.
ولعل أكبر الأخطاء التي دأب النظام الإيراني على ارتكابها، وعلى تكرار ارتكابها، قبل مقتل قاسم سليماني، هو اعتقاده بأن استفزازاته وتحرشاته المزعجة سوف تحرج ترمب، داخليا، وتظهره أمام ناخبيه رئيسا ضعيفا غير قادر على رد الإهانة، وبالتالي فإنه بها سوف يعين خصومه الديمقراطيين على الانقضاض عليه وإسقاطه، وإعادة الليونة الديمقراطية السابقة معه إلى سابق عهدها.
ولكن المقيم في الولايات المتحدة القادر على مخالطة المواطنين الأمريكيين العاديين، والإعلاميين والسياسيين، أيضا، والذي يرصد أجهزة الإعلام الكبيرة، خصوصا تلك التي تعودت على البحث عن الصغيرة والكبيرة من أخطاء ترمب وشطحاته للتشهير به وتسخيفه، ويلاحظ تريثها وحذرها وهي تستعرض تفاصيل الضربة الأخيرة، والذي ييطلع على ما تقوله وتكتبه أجهزة الإعلام المحلية التي تصدر في مدن وأحياء صغيرة، ويقيسمواقفها من عملية مطار بغداد، يلمس حقيقة التغيير الذي أحدثه مقتل سليماني في المزاج الأمريكي العام، ويدرك حجم الخدمة التي قدمها الولي الفقيه الإيراني للرئيس الأمريكي، وحرسُها الثوري، وقاسم سليماني، بشكل خاص، ومدى الضرر الذي ألحقه بالديمقراطيين.
فعلى طول السلسلة المتواصلة من التجاوزات الإيرانية في الخليج وسوريا والعراق، ظل المواطن الأمريكي، سواء المستقل أو المنتمي لأحد الحزبين، غير شاعرٍ كثيرا بأن كرامة وطنه وأمته تتعرض للإهانة، بقدر ما كان يعتبرها مشاكساتٍ بين إيران وخصومها العرب لا علاقة له بها، ولا على الرئيس الأمريكي وإدارته أن يتورط في الرد عليها بهجمات قد تفضي إلى مصادمات عسكرية واسعة لا ضرورة لها ما دامت في حدودها المحلية البعيدة عن المصالح الأمريكية الحيوية المباشرة.
ولكن القصف الصاروخي الذي أقدمت عليه مليشيا حزب الله العراقي على القاعدة الأمريكية في كركوك، ومقتل الأمريكي المتعاقد المدني والآخر العسكري، سواء تمبأوامر مباشرة من المرشد الأعلى ماشرة، أو كان تصرفا ذاتيا من قادة المليشيا، ولكن بأوامر سليماني، قد أشعل الغيرة الوطنية والغضب القومي في نفوس الأمريكيين المعروفين بالتعصب الشديد لهيبة دولتهم، وجعلهم أكثر ميلا إلى تأييد عمل انتقامي عسكري رادع يمنع إيران ووكلاءها من معاودة التحرش مجددا.
والمفاجأة الحقيقية كانت أن العملية الإنتقامية التي أمر ترمب بشنها على قواعد حزب الله ومعسكراته في سوريا والعراق، وقتله العشرات من قادته الميدانيين وأفراده أيقظالشعور الوطني الأمريكي لدى الأغالبية العظمى من الأمريكيين، وأنعش فيهم الزهو بالانتصار والقوة والجبروت.
ثم جاءت محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد، وشاهَد الأمريكيون احتراق بعض جدران أسوارها، وتكسير زجاج نوافذها، وسمعوا هتافات المهاجمين المعادية المهينة الصريحة لتعطي ترمب تفويضا شعبيا بالرد.
ويجمع الكتاب والمحللون والمعلقون الأمريكيون على أن ترمب، بالعملية الاقتحامية المباغتة التي اصطاد بها قاسم سليماني الذي يعتبره الأمريكيون أخطر قادة الحرس الثوري، وأكثرهم دموية وعداءً لأمريكا، والمسؤول الأول عن كل الخسائر الأمريكية في المنطق والعالم، على مدى عشرات السنين، خصوصا في سوريا والعراق، أراد أن يُفهم النظام الإيراني أنه استبدل سياسة الانتقام من الحواشي والوكلاء بسياسة استهداف الرؤوس الكبيرة في النظام نفسه.
وفور إذاعة أخبار العملية تعالت أصوات المباركة والإشادة والتأييد لترمب، وراح كثيرون يميلون إلى اعتباره أكثر الرؤساء الأمريكيين، بعد كندي وريغان وبوش الأب، جرأة وهيبة.
ولعل أهم ما حصل عليه ترمب من صواريخ حزب الله العراقي، ومن اغتيال قاسم سليماني وأو مهدي المهندس هو الحرج الذي سببه للديمقراطيين.
فزعيمة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسيي، مثلا، في تعليقهاعلى العملية، وهي أعدى أعداء ترمب، لم تجرؤ على تسخيف ما قام به، كعادتها، بل دعت فقط إلى التهدئة، وأبدت مخاوفها من النتائج المترتبة على التصعيد، وعتبت عليه لأنه لم يستشر الكونغرس بشأن استخدام القوة العسكرية ضد إيران.
وقد رد البيت ىالأبيض على ذلك بالقول إن ما قام به الرئيس هو إجراء عاجل وضروري لحماية أرواح المواطنين الأمريكيين، وللدفاع عن الممتلكات الأمريكية، ضمن صلاحياته كرئيس، ولا ينبغي له أم يطلب موافقة الكونغرس إلا في حالة إعلان حرب شاملة.
وحين تُضطر شبكاتٌ تلفزيونية مهمة من وزن (سي إن إن) التي لم تُخفِ ولم تخففْعداءها المبدأي لترمب إلى أن تستعرض عملية مطار بغداد باهتمام أقرب إلى التأييدالخجول مراعاةً لمزاج الشارع الانتخابي العام، فإن ذلك دليل واضح على أن إيران وقعت في شر أعمالها، وأخطأت الحساب.
ويذكر أن عددا من نواب وشيوخ جمهوريين وديمقراطيين بارزين أعلنوا تأييدهم للعملية، متوافقين مع الإجماع الشعبي العام المطالب بالمزيد من الضربات الموجعة إذا ما كررت إيران محاولاتها من جديد.
وثمة شيء آخر مهم جدير بالملاحظة وهو أن الجمعيات الإسلامية والعربية الأمريكيةوالصحف وإذاعات اللبنانيين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين المعروفة بعدائها لترمب وبولائها لإيران قد التزمت الصمت واكتفى أغلبُها بنشر الخبر دون تنديد ولا تخوين ولا شعارات. وتفسير ذلك أن المزاج الشعبي الأمريكي العام كان له فعل السحر، على ما يبدو.
والخسارة الكبى الأخرى التي ألحقتها إيران بالديمقراطيين والمكسب الأكبر الذي تحققللجمهوريين، ولترمب شخصيا، هو أن كثيرين من الأمريكيين أصبحوا، بعد عملية قتل قاسم سليماني، يتحدثون عن ضعف الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما ونائبه المرشح الديمقراطي الحالي للرئاسة، ويحملونهما مسؤولية التغوّل الإيراني، وما جره من أضرارٍ على أمريكا وحلفائها، وعلى أمن المواطن الأمريكي في الخارج.
بعبارة أخرى إن الخدمة التي قدمتها الحماقة الإيرانية الأخيرة لترمب لا تقدر بثمن، فقد قربته، أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي مرشح رئاسي آخر، ليعود إلى سابق عهده أكثر حماسا وتصميما على خدمة إسرائيل وحنق نظام الولي الفقيه.