لم يتح لتنظيم داعش الارهابي الاحتفاظ والاستمتاع بنشوة الانتصار الذي اعتقد انه قد حققه من خلال عملية الهجوم على سجن غويران بمدينة الحسكة السورية في العشرين من شهر كانون الثاني-يناير الماضي، وتحرير المئات من قياداته وعناصره الذين كانوا معتقلين هناك، فقد ادى مصرع زعيمه ابو ابراهيم القريشي قبل ايام قلائل في مدينة ادلب السورية، الى خلط اوراق ذلك التنظيم وارباك حساباته، في الوقت الذي مازالت اثار وانعكاسات مقتل زعيمه السابق ابو بكر البغدادي اواخر شهر تشرين الاول-اكتوبر من عام 2019 شاخصة وماثلة حتى الان، بصورة خلافات وتقاطعات وتصدعات وتصارعات متواصلة عند قمة الهيكل القيادي للتنظيم، وارتباك وتخبط الاستراتيجيات، وضربات قاصمة متتالية تلقاها في اماكن ومواقع مختلفة، تسببت له بخسائر بشرية كبيرة، وانحسار واضح في مساحات نفوذه وهيمنته وتواجده، ناهيك عن تراجع-وليس انقطاع-الدعم والتمويل والاسناد له من قبل اطراف دولية واقليمية، ارتباطا بمتغيرات الظروف والاوضاع، وتبدل المصالح والاولويات.
بيد ان ذلك كله، لم يمنع “داعش” من استغلال الظروف والاوضاع القلقة في عدة دول واقاليم، من اجل ان يعوض عن بعض خسائره، ويستعيد قدرا من معنوياته المفقودة، ويتحصل على امكانيات مالية من شانها التخفيف من وطأة ازمات التمويل التي القت بظلالها الثقيلة عليه خلال الاعوام الستة او السبعة الماضية، وتحديدا بعد هزيمته العسكرية في العراق، وتراجعه وانكساره الكبير في سوريا.
العمليات الارهابية التي شهدتها مدن ومناطق عراقية مختلفة في الوسط والشمال والغرب، ناهيك عن العاصمة بغداد، خلال العام الماضي، وكذلك التي شهدتها دول اخرى، مثل افغانستان وباكستان وسوريا وبعض دول القارة الافريقية، بدت مصاديق واضحة لمحاولات تنظيم داعش استعادة جزءا من توازنه وبعضا من قوته، ولكن هل نجح في ذلك؟.
لعل عملية اقتحام سجن “غويران” في مدينة الحسكة، رغم انها تسببت بمقتل اعداد لايستهان بها من الدواعش، وفي ذات الوقت افضت الى هروب او تهريب المئات منهم ايضا، رسخت انطباعات وتصورات مفادها ان داعش مازال قادرا على الوصول الى مواضع حساسة وحيوية، وتحقيق اهداف كبيرة ومهمة، الا ان عملية قتل زعيم التنظيم ابو ابراهيم القريشي فجر الثالث من شهر شباط-فبراير الحالي، بددت كل المكاسب المادية والمعنوية التي اعتقد التنظيم انه قد حققها هنا وهناك.
في الواقع، اثبتت عملية مقتل القريشي، بعد عامين وثلاثة اشهر من مقتل زعيم التنظيم السابق ابو بكر البغدادي، في مدينة ادلب السورية ايضا، ان “داعش”، فقد القدرة على تحصين نفسه والمحافظة على حضوره وفاعليته وتأثيره الحقيقي، لان الوصول الي زعيمه وتصفيته، بصرف النظر عن الجهة المنفذة والجهات الداعمة والساندة، معلوماتيا ولوجيستيا، يعني فيما يعنيه، هشاشة وضعف التنظيم من جانب، ومن جانب اخر، يؤشر الى استفحال التشضي والانقسام والتناحر بين قياداته العليا، ذلك التشضي والانقسام الذي تفاقم الى حد كبير بعد مقتل البغدادي، وتصدي القريشي المرفوض من قبل عدد لايستهان به من قيادات التنظيم لاسيما في اقاليم بعيدة عن العراق وسوريا، كأفغانستان وغرب افريقيا.
اضف الى ذلك، فأن الفترة الزمنية المحصورة بين مقتل البغدادي ومقتل القريشي، شهدت تصفية واعتقال العشرات من القيادات الميدانية للتنظيم في سوريا والعراق، وتدمير الاوكار والمخابيء، وقطع خطوط الامداد، وشل شبكات الاتصالات، وهو ما ترك اثرا سلبيا واضحا على تماسك وقوة البنى والهياكل التنظيمية المختلفة، العسكرية منها وغير العسكرية، وكذلك سهولة وسرعة تعقب خلايا واوكار التنظيم من قبل الاجهزة الاستخباراتية والعسكرية والامنية، خصوصا مع وجود التنسيق العالي والتعاون المستمر خارج النطاق المحلي.
ولاشك ان اغلب-ان لم يكن كل-عمليات استهداف قيادات داعش ومخابئه واوكاره ومصادر دعمه وتمويله، كانت تتم من خلال اختراقات امنية دقيقة لعمق التنظيم، وهو ما يعزز حقيقة الخلافات والتقاطعات والانقسامات داخله، والتي من المتوقع انها سوف تتفاقم وتتسع مع الضعف المتواصل في قمة الهيكل القيادي بسبب الاستهدفات والتصفيات المستمرة.
ويرى محللون ومختصون بالشؤون الامنية، “ان داعش يواجه في المرحلة المقبلة، تحدي السيطرة على أذرعه المنتشرة حول العالم، تلك الأذرع التي بات بعضها أقوى من التنظيم الأُم، وتنشط في ساحات أكثر اشتعالاً وجذباً في الوقت ذاته، كولاية خراسان في أفغانستان، وولاية غرب أفريقيا في الساحل الأفريقي”.
في نفس الوقت، فأن ضعف مركزية التنظيم، ومحورية القيادة العليا، قد تكون عاملا محفزا وعنصرا دافعا، للتنظيمات والقيادات الفرعية، للتحرك واثبات وجودها وتأثيرها من خلال ارتكاب عمليات ارهابية عشوائية، تستهدف اكبر عدد من الناس في الاماكن العامة، وهذا ما ينبغي التحسب له جيدا، خصوصا في العراق، ارتباطا بتجذر وثقل داعش فيه.
وربما يقع في خطأ كبير، من يفترض او يتوقع ان تنظيم داعش بمقتل زعيمه يكون قد انتهى او في طريقه الى النهاية، نعم قد يتعرض للمزيد من الضعف والتشضي والتشرذم، بيد انه لن يفقد بقائه وحضوره وقدرته على الفعل والتحرك، ليس بحكم امكانياته الذاتية، وانما بحكم طبيعة المصالح والحسابات والمعادلات والصراعات والتوازنات التي تقتضي وتحتم استمرار وجوده، وحتى وان بمسميات وعناوين اخرى، من تلك التي ولدت من رحم داعش في اوقات سابقة، كـ”جند الله” او “الحازميون”، او سواهما.
من غير المستبعد ان يختفي او ينحسر اسم “داعش” كما حصل مع اسم “القاعدة”، ولكن الوجود الفعلي لن يختفي تماما، رغم مراحل ومحطات الضعف والارتباك والتشتت والتشرذم، وهذا ما يستوجب من المؤسسات والاجهزة الامنية والاستخباراتية في العراق وسوريا ومختلف الدول المستهدفة، ان تحافظ على ديمومة وزخم حربها ضد الارهاب، لان مقتل زعيمه القريشي، يعتبر-كما هو مقتل سلفه البغدادي-جولة من جولات المواجهة المتواصلة، بأدواتها واساليبها ووسائلها وعناوينها ومسمياتها وميادينها المتعددة.