يبدو ان الانشقاقات المتتالية، قصمت ظهر السيد مقتدى الصدر، واضعفت وجوده في الساحة، وحجمت دوره الوطني والسياسي. هذا التصور يتبادر الى ذهن المراقب الخارجي، الا ان الصدريين، يرونها خلاف ذلك. انهم يجدونها عملية (طرد) للعناصر الفاسدة. وهي تنقية للخط الصدري وصيانة دورية، تجعل التيار منسجما مع القيم والثوابت العقائدية، بعيدا عن الانحراف والفساد، كما عبروا عن ذلك، أكثر من مرة. أو ما يصطلح عليه بالتمحيص او الغربلة.
قال الصدر بصراحة: أنا يهمني (النوع) وليس (العدد)..
ويمكن القول: ان عمليات (الانشقاق) هي حالات (طرد) و (إبعاد) لعناصر من الصف الاول، في الخط، رافقها –غالبا- انسحاب جماعة (المطرود) ودائرته الخاصة. ويمكن تعليل ذلك الطرد والابعاد أو الانشقاق لاحتمالات قد يصح واحد منها او اكثر وهي:
الاحتمال الاول:
شخصية الصدر، الحادة أو الجدية تجاه منظومة قيم و مباديء اسسها والده الشهيد الصدر. وهذا جعل الصدر يتحرك، استنادا الى تلك المنظومة الصدرية، دون ان يلتفت الى ما ينعكس على الافراد من حوله. وقد يكون ذلك الالتزام منفرا لقسم منهم، خاصة اولئك الذين يعتبرون أنفسهم من المؤسسين للخط أو من القدامى في الخط الصدري.
الاحتمال الثاني:
دقية الصدر الرسالية. إن الصدر لم يجامل احد، في قبال مشروعه الرسالي. وكان مستعدا للتضحية بنفسه، فضلا عمن حوله لاجل ابراء ذمته، تجاه تكليفه الشرعي الرسالي. وهذا ما لم يطيقه الافراد من حوله، فضلا عن جهل اغلبهم بالصدر وذوقه ومنظومة المباديء والقيم التي يؤمن بها. وقد عبر السيد مقتدى الصدرعن ذلك في اكثر من تصريح بين طلبته. ووصف نفسه على انه (محاصر)..!
الاحتمال االثالث:
ان الصدر يمارس عمليات (تدوير) او (تغيير) دورية، لاجل تكامل وتطوير من حوله، ثم تكامل وتطوير تياره. وهذا الاسلوب الحركي او الاداري لا يتقبله البعض من افراد الخط الاول، خاصة اولئك الذين تمكنوا من بناء قداراتهم المالية. واحيانا يتعمد الصدر (استفزاز) من حوله، اختبارا أو طردا له.
الاحتمال الرابع:
ان الصدر يمارس عمليات (تدوير) او (تغيير) دورية، لاجل تحجيم من حوله، وتقليل فرص الانحراف والفساد. او لاسباب امنية او تورية، خداعا لاعداءه. لانه كان ولا يزال، مستهدفا من جهات خارجية وداخلية كثيرة.
الاحتمال الخامس:
غموض الصدر وتفاوت (تقييم) اتباعه له، فمنهم من يؤمن بعصمته، بينما يرى اخرون غير ذلك (1)…!
وهذا الغموض يلازمه (جهد) من الفرد، ليتمكن من (الثبات) على الولاء لرئيس الهرم العقائدي او الاداري، قد لا يكون متوافرا عند الجميع. واستنادا الى هذا الغموض يحصل الابعاد او الانشقاق بعنوان (الافراط) مثل اصحاب القضية (2) او السلوك..او (التفريط) ممن لم يلتزم بتوجيهات الصدر.
ويبدو ان الصدر قد تعمد هذا الغموض، لاسباب تكتيكية او غير ذلك…!
الاحتمال السادس: اسلوب الصدر الناقد، اللاذع، لاتباعه، وهو يقصد بذلك تطويرهم وتحسين الاداء والمحتوى والنوع. هذا النقد لا يحتمله الجميع، بل قد يشذ منه البعض وينفر.
الاحتمال السابع: زهد الصدر، في المناصب والسلطة، في مقابل طموح بعض القيادات الصدرية في الحصول على منافع ومناصب لهم او لذويهم واخوانهم ثمنا لجهادهم ..!
الاحتمال الثامن:
ادارة الصدر، وهي نوع (مبتكر) من الادارة، يجمع بين (المؤسساتية) و (الحوزوية).. لماذا..؟
يمكن القول بوجود ايجابيات اكيدة للعمل المؤسساتي الحكومي، فضلا عن ايجابيات المؤسساتية في أي شركة او تنظيم في مناخ امن ومستقر. اما بوجود تهديد من الاحتلال ومن احزاب السلطة، لا يبعد ان يكون للمؤسساتية محاذير ومخاطر على خطط التيار الصدري وقياداته وقواعده. لان المؤسساتية، بشكلها العملي، تفرض التوثيق واللوائح في ابسط الفعاليات، وهذا لا يمكن له ان يكون اختيارا (صائبا).. فضلا عن مخاطر (الجمود) و (الروتين) و (البيروقراطية).. الا ان عواقب (الفوضى) في العمل قد تكون اشد..
……..المؤسساتية والحوزوية:
لتوضيح الاحتمال الثامن: ان السيد مقتدى الصدر، وضع (المؤسساتية) والادارة الذاتية او الحوزوية (3) كلا بحسبه، أي ركز المؤسساتية في اجزاء من التيار، دون غيرها، بينما، أوكل أدارة الامور –بطريقة حوزوية- الى اشخاص في اجزاء اخرى لمتطلبات امنية او غير ذلك. وجعل الصدر (الضابط) تحقيق الاهداف, وجعل الاصالة في الشخص وموثوقيته ، مع التساهل في المؤسساتية، قدر الضرورة.
ولا ملازمة بين (المؤسساتية) و (المركزية).. ! بل، قد يكون العكس. فضلا عن مخاطر استمرار الفرد في منصبه لفترة طويلة. وتمكن الصدر من تجاوز من حوله، بواسطة الخطاب والاتصال المباشر مع قواعده الشعبية، واستثمر التقنيات الحديثة في التواصل الى ابعد حد ممكن، فضلا عما حققه من انصهار مع قواعدة في انتفاضتين، شارك فيهما وهو يعايش مستويات العمل في التخطيط والتنفيذ والهجوم واخلاء الجرحى وغيرها.
……… ما هي علاقة الاسلوب الاداري بالانشقاقات..؟
ان اتباع الصدر ليس لهم موقع ثابت في مساحة الخط، لان الاصالة للخط وليس للفرد. ولذلك، بين ليلة وضحاها، يجد القيادي البارز نفسه، بدون عنوان، بعد اصدار قرار او كصطوصة (قصاصة) من القائد الصدر، ويصبح مبعدا.. وفردا عاديا، مثل بقية افراد التيار الصدري، قد يناسبه ذلك او لا..(4).
الاحتمال التاسع:
ان الصدر حرص على تاسيس وبناء علاقات طيبة مع الاطراف العراقية كافة، فضلا عن ايجاد عنوان وطني تحتاج له الساحة، ولم توفره الجهات الاخرى. وقد يلازم تاسيس ذلك المشروع الوطني، وصول شكاوى ضد افراد من التيار، ممن تورط بالخطاب الطائفي او الفعل الخاطيء والمسيء. ولا يمكن للصدر ان يضحي بالمصالح العليا، وبالبناء الوطني، لاجل فرد ما. فيضطر الى ابعاده او تحجيمه، وقد يترتب على ذلك تطورات اخرى.
الاحتمالات الاخرى:
وهذه الاحتمالات، اذا نظرنا الى طبيعة الصدر وذوقه ومزاجه، وليس الى الاطراف الاخرى او متطلبات الساحة والعمل. اما اذا نظرنا الى طبيعة من هم حول الصدر من اتباع او اعداء، وماهو ذوقهم ومزاجهم..؟ تكون لنا احتمالات اخرى، مع الالتفات الى : ان التيار وقياداته، جزءا من الشعب العراقي وشيعته، ممن عانى الفقر والاضطهاد، واغلبهم، أهتز بسبب التغيرات السياسية والحياتية في الواقع، وصار الاتجاه الى (كون نفسك وافلت).. او (كون نفسك حتى تطرد..)..!
كذلك، ان افراد المجتمع العراقي عموما، انفتحت عليهم الدنيا وفضائياتها ومظاهرها، ولم يسلم اغلب قيادات الصدر من ذلك، فطمعوا بما يقدمه الاحتلال او الاحزاب التي دخلت معه، او مخابرات الدول المجاورة ، جعلت القضاء على الصدر هدفا مهما واكيدا. يضاف الى ذلك تاثير المكاتب الدينية (البرانيات) واغلبها فتح ابوابه لاستقبال المبعدين والمنشقين..
….. ماذا بعد الانشقاقات:
وبالرغم من التحديات، والصعوبات، اثبت السيد مقتدى الصدر، قدراته الفذة، في المحافظة على العنوان الصدري، رقما، صعبا، على المستوى الداخلي والخارجي، وأقر اعداؤه بذلك، فوصفه الامريكان بانه (صانع الملوك).. وقد ثبت للباحث، ان الصدر، هو الاول في قائمة القيادات الرسالية والوطنية، ويحق للعراقيين الشرفاء ان يفخروا بوجود الصدر، داعما للحراك الوطني، وضامنا لحقوق الشعب المظلوم (5)..يتبع.
…… هوامش:
(1) بدأ الصدر باعتراض دخول القوات الامريكية الى النجف الاشرف، في نيسان 2003، وتصاعد صوته المعارض للاحتلال، فانفتحت ضده الماكنة الاعلامية لتصفه بالجنون وبالمراهقة وغير ذلك، الا ان الاعلام المحلي وخاصة الاعلام التابع للاحزاب الاسلامية والشيعية، كان هو الاكثر تاثيرا في تشويه صورة الصدر، واثارة الشكوك والشبهات ضد مواقفه الوطنية المقاومة للاحتلال وللعملاء.
(2) اصحاب القضية يفرطون ويبالغون في تقديس السيد الصدر، وينسبون له صفة الامامة والعصمة، وهو يرفض ذلك منهم.
(3) الادراة الذاتية، هي ادارة فرد، يكون على راس الهرم، والعمل بما يراه مناسبا، وهو الاسلوب الحوزوي، الشائع. ولا مؤسساتية في الحوزة، خاصة تلك المؤسساتية المتعارف عليها في انظمة الحكم او الشركات الغربية.
(4) يضاف الى ذلك تواصل الصدر مع قواعده المباشر في صلاة الجمعة او في بيته، وذلك عزز مركزيته، مع الاحتفاظ باسلوب ادارته الخاص، الذي يجمع بين المؤسساتية الحديثة والحوزوية التقليدية.
(5) المعلومات، في هذه الدراسة، لاسباب توثيقية، وعرض للقضايا بحيادية، توثيقا لهذه المرحلة، وتقديرا للخط الصدري. مع الاشارة الى تقصير اهل الاختصاص والتاريخ والادب. ذلك التقصير منهم، دفع استاذ في الهندسة وليس تاريخ او اجتماع، لكتابة مثل هذه الدراسة المتواضعة، وللضرورة احكام.