بالرغم من سقوط حكم الهدام (صدام) عام 2003.. الا ان أغلب الصدريين قد أدركوا أنهم أصبحوا – في نيسان ذلك العام – في مواجهة مباشرة مع العدو الاول لهم.. فقد عبروا عن ذلك بقولهم: ذهب التلميذ .. وجاء الاستاذ..!
قال مقتدى الصدر ذلك بعد دخول امريكا في العراق، التي اعتبرها استاذ صدام، الذي كان تلميذها الاول..
ولم يتمالك البعض دموعهم وهم يسمعون ازيز الدبابات الامريكية تغتصب الاراض العراقية.. لأنهم وجدوا (الاحتلال) ثمنا غاليا لأزاحة ديكتاتور (متهالك).. ضحوا كثيرا لرؤية نهايته بأيديهم.. نصرا للعقيدة.. وثأرا لدماء الشهيدين الصدرين والكعبي والنعماني..
وصارت الصورة القاتمة لمستقبل العراق واضحة.. وثقل التكليف الشرعي القادم أوضح… وانفتحت للمحن بوابات..!
…… انتفاضة وانتكاسة :
منذ 1991، بدأ السيد محمد الصدر بتربية مريديه ومقلديه .. ثم القواعد الشعبية، على قيم (التوكل) و (التصدي).. وقد انتج – فعلا- أفراد يستشعرون منزلة الخلافة (1).. وفي مقدمة اولئك الافراد.. أبناؤه..ومنهم أصغرهم، السيد مقتدى الصدر(2)..وبعبارة أوضح:
كان العقل الشعبي عموما، ينتظر (الحل) و (الفرج) من خارج العراق، بواسطة انقلاب او تدخل عسكري من ايران او واشنطن.. والبعض ينتظر التدخل الخليجي .. وحرصت الاحزاب العراقية (المعارضة) على نشر روح (التبعية) و (الذيلية) ورفض الاعتماد على الجهود الشعبية والداخلية في التغيير، وكان موقف احزاب المعارضة واضحا، رافضا للانتفاضة الشعبانية (1991).. بينما اتجه الصدر الى خلاف ذلك، تماما، فقد ثقف وحشد على القيم والمفاهيم التالية:
المفهوم الاول: اهمية العراق والكوفة، واهمية القواعد الشعبية فيهما.. في الجمعة الاولى له، مشيرا الى اهمية الكوفة فقال: هذه عاصمة المهدي سلام الله عليه (كول لا، سبحان الله !) نجهل ونغفل ؟!، يأتي الى الكوفة فيصعد المنبر..(انتهى)
المفهوم الثاني: الشعور بالمسؤولية، فقد حث الصدر مريديه واتباعه على الشعور بالمسؤولية تجاه العراق ومستقبله، مثلا في الجمعة الاولى –ايضا- قال: ، ثم يجعل الكوفة عاصمة له يرسل الرسل الى الاطراف والى الاقاليم. فنحن في مكان مقدس حقا ولا يعوض بشيء اطلاقا كونوا على مستوى المسؤولية في تحمل هذه النعمة. انتهى.
المفهوم الثالث: أفراغ الذمة ويتضمن، العودة الى الذات، والعمل وتحدي الصعوبات. مثلا، وبالرغم من سطوة الحكم الديكتاتوري والحصار والظروف المعاشية الصعبة، لم يهمل الصدر (الوالد) الجوانب الانسانية والفنية، وتحرك لاتاحة الفرصة للمثقفين والفنانين لاجل الابداع والتوثيق، مشيرا الى ان التاريخ سيوثق مواقفهم وانتاجهم الانساني والثقافي والفني، فقد دعا الى مهرجانات ومعارض فنية، ودعا الفنانين الى تقديم اعمال فنية ليوم الغدير، واقيم ذلك المعرض فعلا، ولا زالت الاعمال الفنية موجودة في متحف الصدر (في النجف).. وقد دعا لذلك المعرض الفني عام1999، في خطبة الجمعة36 فقال: ..اهيب بالاختصاصيين وغير الاختصاصيين، ان بأتوا لنا بما يناسب ذلك المقام الجليل … وسوف يقول التاريخ ان هذا الشيء وهذا الطلب وقع خلال القصف الامريكي ليكون دليلا على ان المؤمن لا يخاف من احد الا من الله سبحانه وتعالى. انتهى.
المفهوم الرابع: التوكل على القوة الغيبية، موضحا ان الدول لاستعمارية ستدخل العراق، وان الصدر واتباعه سيواجهون اسلحتها وقوتها بالاعتماد على الدعم الالهي..فقال في الخطبة11 ما نصه: ان الاستعمار الغربي ماذا هو وسيلته ؟ المال والسلاح، مختصر مفيد. يسيطر على وجه الكرة الارضية بالمال والسلاح. عنده شيء آخر ؟ لا يوجد. نحن ماذا عندنا ؟ الله سبحانه وتعالى (كول لا !)..انتهى.
المفهوم الخامس: الشهادة، قيمة معنوية، حشد لها الشهيد الصدر، بل ربطها بأمريكا واسرائيل، وجعل افضل حالة للموت هي تلك الموتة التي تريدها امريكا وتفرح بها اسرائيل. ومتهما أمريكا بقتله قبل شهادته..!
فقال: ..ان ذهبت الحياة فسوف اذهب وضميري مرتاح.. ويكفي ان في موتي شفوة وفرحا لاسرائيل وامريكا.. وهذا غاية الفخر في الدنيا والاخرة..(انتهى)
……. الصدر بين الشرق والغرب:
منظومة هذه المفاهيم العالية، وغيرها من قيم انسانية وثورية، تحررية، ورثها مقتدى الصدر، ليجد نفسه –مباشرة- أمام أقوى الدول في العالم.. شابا في الثلاثين، ليس له أي دعم دولي، بل ليس له شرعية داخل مدينته، النجف، التي رفضته، واعلنت البراءة منه، يضاف الى ذلك، ان القدر يبشره بفتح ابواب من المحن والازمات، تتبعها انشقاقات.. ومن تلك المحن:
المحنة الاولى: الاحتلال الامريكي للعراق، بجيشه الجرار ومعه الاحزاب الاسلامية، التي بايعت (بريمر) واليا وحاكما للعراق، الذي سيكون الولاية 53 من ولايات أمريكا. ويلازم ذلك مسح الذاكرة والقيم التي ضحى الصدريون لاجلها.
المحنة الثانية: محنة القواعد الشعبية عموما والصدرية خاصة، وقد باتت فريسة (جاهزة) لعمائم ومكاتب لا يهمها الا السطوة و (التمرجع).. دزن ان تهتم للعراق واحتلاله وتدميره.
المحنة الثالثة: محنة الاحزاب التي دخلت على ظهر الدبابة الامريكية، وكل همها نهب الاموال وبناء احزابها وقياداتها من ذوي الجنسيات المزدوجة,,
المحنة الرابعة: محنة الشعب العراقي الذي اتعبته الديكتاتوية والحرب والحصار.. ولم تسنح الفرصة الكافية لبناءه الثقافي والعلمي ليواجه هذه التحديات الجديدة..
أمام كل هذه التحديات وقف الصدريون، وفي مقدمتهم مقتدى الصدر، يملكون الكثير من المثاليات والمحددات.. وليس لهم في الواقع الا قواعد شعبية ، لا تملك الا حياتها لتضحي بها.. يقودها الصدر الشاب الذي اجتمع على انهائه الشرق والغرب(3)..
وللحديث بقية(4)..
…..الهوامش:
(1) الخلافة هي منزلة الانسان في الوجود، وبها يتحمل الفرد مسؤولية كاملة عن ادارة الساحة الارضية، وقد يصطلح عليها بعنوان (الحسبة) مع الفارق، ودليلها الاية الكريمة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…(البقرة30).
(2) السيد مصطفى الصدر، هو الابن الاكبر للشهيد الصدر، وكان في الواجهة، مجتهدا وقاضيا وممثلا لوالده امام الدولة والمجتمع وفي المكتب. بينما كان السيد مقتدى الصدر بعيدا عن الاضواء، ويتجنب الظهور في التوثيقات الفلمية والصورية، واقتصر عمله تقريبا على ادارة جامعة الصدر والقاء الدروس، الا ان شواهد –حديثة- تشير الى انه قد تلقى تربية خاصة واعدادا معمقا من لدن والده.
(3) الصدر الشاب الذي اجتمع على انهائه الشرق والغرب، مفهوم اقره الكاتب الجنابي في كتابه مقتدى الصدر – ميتافيزيقيا الثورة الصدرية. فكتب: وليس مصادفة اشتراك جميع هذه القوى في استغرابها لهذا “الصبي” “الجاهل” “الزعطوط” في منافسته إياهم . وهو تقييم كان محكوما بنفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة المميزة للقوى السياسية التي رافقت قوى الاحتلال دون أن تتمتع بقدر ضروري من الاستقلال والحكمة العملية.
(4) يفترض ان نكتب عن هذه التحديات وما ترتب عليها من انشقاقات بالتفصيل،لاحقا.. لتكتمل الصورة..ان شاء الله تعالى.