عبرت سور المنطقة الغبراء، هكذا احب تسميتها دائما، لست من اتباع الصدر ولكني كنت ليلتها احمل صورته بيدي كواحد من المتظاهرين، وارفعها بين حين واخر امام عدسات المصورين الذين يصورون بالهواتف النقالة او بعدسات الفضائيات، واصرخ كالاخرين مرددا شعارات تلبي حاجة في نفسي، كنت اول العابرين للسور، تسلقته قبل ان أشارك الاخرين بهدم جزء منه، كنت انوي الدخول الى الخضراء والتجول في ازقتها وساحاتها، وتحديدا كنت اريد الوصول الى بناية مجلس الوزراء، كنت احلم في الوصول الى مكتب رئيس الوزراء والجلوس على مكتبه، واستخدام قلمه، عمري الان تعدى الخمسين، وخلال سنوات الاحتلال الماضية كنت اساؤل نفسي يوميا بألم وحسرة: كيف يمكن للصوص وأغبياء وضعفاء وعملاء ومجانين ان يحكموني بكل هذه البساطة، وان يتحكموا بمصير بلد وشعب عمره بعمر تاريخ البشرية، وقبل سنوات طويلة، يوم كان صدام حاكما، كنت ابتعد كثيرا عن منطقة كرادة مريم، وحتى لو كتب لي ان امر بسيارتي من هناك، فامر بقلب مرتجف وأمضي مسرعا وادعوا الله ان لاتتعطل سيارتي في شوارعها، اما اليوم فكلي شغف لدخول القصور التي بناها صدام وسماها قصور الشعب، والتي احتلها وللاسف الغزاة والعملاء، كانت اوامر الصدر حسب ما قال لي احد المتظاهرين، ان لاندخل الخضراء، وان لانتجاوز السور، غير اني لست من اتباعه كما قلت، فتسلقت السور محتضنا صورته حتى اتجنب بها ردود فعل الاخرين سواء حمايات او رجال امن او ماشابه، وبالفعل فما ان شاهد الحراس صورة الصدر بيدي حتى اداروا وجوههم الى الخلف وكأن الامر لايعنيهم، ولكني كنت لوحدي، فلم اتجرأ على النزول الى الجهة الاخرى وانتظرت ان يتسلق اخرون السور معي وربما يندفعون فاندفع معهم الى داخل الغبراء، وهذا ما حصل، فماهي الا ثوان قليلة حتى تسلق اخرون واخرون، وعبر البعض منهم الى الداخل وكنت منهم ثم بدأت عملية تهديم السور واسقاط جزء منه حتى اندفع الجمع متجها الى مبنى البرلمان، لم يكن شغفي يتعلق بالبرلمان، فانا والعراقيون جميعا شاهدنا عراك البرلمانيين ولهوهم وجدهم، ولكني كنت اريد ان ارى مكتب العبادي وكرسيه ومكتبه واشياء اخرى ربما لاتخطر على بال احد، فكنت انادي بالجمع: لنتجه الى مبنى رئاسة الوزراء، غير ان احدا لم يسمعني، كانوا كمن يعرف هدفه، ويعرف طريقه، لم يستجب لنداءاتي المتكررة احد، لم يعرني احد اي اهتمام، فما كان مني الا مسايرتهم على امل ان تكون خطوتهم القادمة هي رئاسة الوزراء..
حين دخلنا المبنى، بدأ الصخب والهياج والتجول بين الغرف والمكاتب، بعضنا وجد طعاما فاكل منه، وبعضنا وجد حاجات متروكة فاخذها، ولما لم يكن لي اهتمام بالبرلمان كله، قررت ان ابحث عما يمكن ان استفيد منه، مستذكرا ايام الحواسم بعد الاحتلال مباشرة، وقلت لنفسي ان كنت اخطأت مرة ولم احوسم كالاخرين، فلن اخطأ هذه المرة ابدا، فخرجت من المكاتب واتجهت الى القاعة الكبيرة التي يجتمع فيها البرلمانيون، رأيت احد المعتصمين يجلس منتشيا على كرسي الرئاسة محاطا بمجموعة من رفاقه وهم يؤدون ادوار الرئيس ونائبيه، ثم كان هناك من جلس على مقاعد البرلمانيين ووضع الهيدفون على اذنيه، ويرفع يده بين الحين والاخر طالبا الحديث كاي نائب برلماني مؤدب وملتزم، والمتظاهر الاسمر الذي يؤدي دور الرئيس كان يقاطع كفيه ويصرخ دون ان يستمع اليه احد( نقطة نظام نعم تفضل) ثم مسك المطرقة وراح يضرب بها بقوة على المنضدة، فيما واصلت البحث بين مقاعد النواب علي اجد شيئا ثمينا يعوض عدم ذهابي الى مبنى مجلس الوزراء، وحينها بدأ المتظاهرون تحطيم المقاعد والاثاث، فسقط كيس ورق اسمر صغير من احد المناضد، فتلقفته ووضعته مباشرة في جيبي
دون ان انظر ما بداخله، آملا ان تكون بداخله قطعة من ذهب، او رزمة دولارات اميريكية من اموال النفط او الصفقات او الرشاوى، واستمر الحال حتى صدر الامر باخلاء المبنى والعودة الى حيث كنا، وحينذاك اخرجت الكيس من جيبي فوجدت مكتوبا عليه بخط عريض عبارة ( الاستاذ النائب ابو محمد)، وحين فتحته وجدت بداخله حبات دواء زرقاء، وكيسا صغيرا جدا من النايلون فيه عشب اخضر، فضحكت من احلامي وامالي، وقلت في نفسي ان خوف النائب ابو محمد وهروبه انساه حتى دواءه، واعدت الكيس الى جيبي، وخرجنا فاذا بقوات امنية منتشرة تحيط بنا وتقودنا الى ساحة الاحتفالات حيث تقرر الاعتصام فيها، ففرحت وقلت ربما ستواتيني الفرصة لدخول مجلس الوزراء والجلوس على كرسي العبادي لاحقا، لاريه كيف تكون الاصلاحات، وفي الطريق ومع ترديد الشعارات والهتاف والصراخ، سالني احد المتظاهرين ان كنت احمل في جيبي حبات بندول او اي شيء يوقف الصداع، فاخرجت كيس النائب ابو محمد وناولته شريط الحبات الزرقاء، قائلا له، لا اعلم بالضبط ما هذه ولكنها قد تنفعك، فتناول حبة واحدة وكان يحمل قنينة ماء شرب منها واعاد لي الشريط شاكرا ومقدرا كرمي، وبعد دقائق قليلة وقبل ان نصل الى ساحة الاحتفالات عاد هذا المتظاهر ومعه ثلاثة اخرون، وتوسلني ان اعطي كلا منهم حبة من هذا الدواء وهو يصف لهم مفعوله السريع بانهاء الصداع، فاخرجت الشريط مرة اخرى وتناول كل منهم حبة واحدة واعادوه لي شاكرين ممتنين، فشعرت حينها ان الصداع قد بدأ يضرب راسي انا ايضا ورغبت بتناول حبة من دواء النائب ابو محمد ولكني لم اكن احمل ماءا فاجلت الامر الى حين..
وصلنا الى ساحة الاحتفالات وسط الاهازيج والهتافات وكان احب هتاف لي هو ( ايران برة برة، بغداد تبقى حرة) وانا اساؤل نفسي: كيف يمكن للصدر ان ينقلب على ايران؟.. غير اني لا احب الحديث في السياسة، فقد مللت منها، ومشاركتي في التظاهرات ليست سوى تلبية لرغبة غبية وتافهة لدخول مجلس الوزراء والجلوس على مكتب العبادي..
بعد دقائق عاد صاحبي الذي اعطيته الحبة الزرقاء ومعه شخص اخر اكبر سنا بلحية يشوبها البياض، ويبدو انه على قدر من الاهمية، اذ كان يحدثه صاحبي باحترام وتوقير، وطلب مني ان اعطي السيد، وهكذا اسماه، حبة من الدواء لانه يعاني من صداع شديد، فاخرجت الكيس وناولته شريط الحبات الزرقاء، وحين لمحها، قرَّبها الى عينيه وقلب الشريط مدققا في ما مكتوب خلفه، ثم هز يديه ضاحكا وقال: اريد حبات بندول للصداع وليست هذه، قلت لا املك سوى هذه، فاستدار الى صاحبه وسأله: أتناولت من هذه؟. فاجاب مشجعا: نعم سيدنا وهي قوية جدا، ازالت الصداع بلحظات، جربها ولاتخف منها.. فرمى السيد شريط الدواء على صدري وقال لصاحبه باستهزاء: ( اهمداك، خايب هاي حبات فياغرا مقوي جنسي شجابها للصداع شبيك انت خبل) ثم التفت الي قائلا بحدة: (انت شنو طالع للمظاهرات لو جاي ادور ولــ….؟)، فارتبكت وانا اسمع كلمته الاخيرة، واخرجت كيس النائب ابو محمد واعطيته له مرتجفا وقلت: سيدنا اقسم لك بالله اني وجدت هذه الحبات داخل هذا الكيس في قاعة اجتماعات البرلمان ولا اعرف ماهي.. فتناول السيد الكيس الورقي بما فيه ففتحه واخرج منه الكيس الصغير الذي يحوي العشب الاخضر، فقلبه بيده وقربه الى انفه واذا به ينظر لي بطرف عينيه قائلا: ( واي واي فياغرا وحشيشة، بوية انت شكلك مو راحة، شجابك انت اليوم يمي) ثم التفت الى مجموعة بجانبه وهو يضع الحبات الزرقاء وكيس الحشيشة الصغير في جيبه ونادى: ( يولد تعالوا بوية اخذوا هذا للمكتب دنشوف شنو قصته وشنو علاقته بالنائب ابو محمد)، وقبل ان يكمل جملته كانت ثمة اياد عديدة
قد تلاقفتني من ياقتي ومن كل انحاء جسدي، ولكني تمكنت من رفع يدي مخاطبا السيد: بروح ابوك سيدنا بس خلي اشوف مكتب رئيس الوزراء..