كم احببتُ زرقة البحر عامة ، وزرقة البحر الابيض المتوسط خاصة ، وبعض الاحيان أتساءل عن السبب في ذلك ، وهل هي النشأة الريفية على ضفاف الهور ، حيث المسطحات المائية الشبيهة ، الى حَد ما ، بسطح البحر وزرقته . وجوابي : رُبَّما .
وحول البحر الابيض حمتُ اكثر من مرة . من خليج (أوغاريت) قرب مدينة اللاذقية في الساحل السوري ، عاينتُ البحر . ومن أثينا ، العاصمة اليونانية ، ركبتُ الباخرة نحو الجزر الاغريقية ، وأشهرها (كريت) و(رودس) ، مروراً بقبرص فاللاذقية فالاسكندرية على الساحل المصري . من جزيرة (الخزيرات / الخضيرات) الاسبانية قطعتُ البحر باتجاه مدينة طنجه المغربية ، ومنها باتجاه مدينة جبل طارق على الساحل الاسباني .
هل البحر لص ؟
وأتذكر قولاً للاديب الفرنسي (ستندل) جاء فيه : (رأيتُ الصخور عارية كفتاة جميلة ، ورأيت الماء يضربها كأنه لص يستدرجها الى كهف بعيد . ورأيت الشمس ، من وراء السحاب سعيدة بذلك ، وتمنيت ان اكون الماء والرمل تحت الصخور والشمس ايضاً) .. . وانا الآخر تمنيت ذلك ! ؟ .
واقرأ في اوراقي القديمة : مطلع عام 1995 ، بدأت قراءة رواية (السفينة) ، للأديب (جبرا ابراهيم جبرا) ، وهو فلسطيني أقام في العراق بعد النكبة . خلاصة الرواية : مجموعة من الناس تسافر من بيروت الى موانئ البحر الابيض المتوسط ، بعضهم عراقيون وفلسطينيون . تنتهي (الرواية / الرحلة) في مدينة نابولي الايطالية ، بانتحار الطبيب العراقي فالح ، وعودة جثته الى بغداد مع زوجته لمى وصديقه عصام السلمان .
وفي مقاطع وعبارات عديدة ، يتحدث الروائي الفلسطيني جبرا عن البحر ، وبالذات : البحر الابيض المتوسط . ومنها : البحر جسر الخلاص – البحر هذا الشيخ الوقور – ما أشد إطمئنان البحر – دائماً ، هناك بحري وزورقي ومغامراتي – هذه الجزر الاغريقية ، كالدرر الخضراء ترصع البحر . تتعدد العبارات التي تعكس الحب للبحر والالفة معه .
لكن البحر ليس أليفاً أو ودوداً على الدوام ، فما أكثر ما اختطف من بشر وغيبهم ، وكثيرة هي السفن التي ابتلعها (وأشهرها التايتانيك) ، وكثيرة هي الشواطئ التي اجتاحها ، ومن ثم عاد إلى مستقره حاملاً جثث عشرات الالوف من ضحاياه .
لكن الحديث عن وَجْهَيْ البحر صحيح : هدوءه وغضبه .. هذا هو البحر : عالم قائم بذاته من السطح حتى الاعماق .
مقبرة الاحياء
الجزر في البحر الابيض المتوسط ، نجوم ساطعة بيضاء في سماء زرقاء ، هذا ما يقرره الكثيرون من البشر ، وهذا ما توصلتُ اليه ، وأنا أترجل من الباخرة على شواطئ قبرص أو شواطئ مالطه . واتوقف قليلاً عند هذه الجزيرة .
هي دولة أوربية ، تتكون من ثلاث جزر صغيرة في البحر المتوسط ، جنوب صقلية ، وشرق تونس ، والى الشمال من ليبيا . تقع مالطه ضمن قارة أفريقيا ، لكنها سياسياً : تقع ضمن قارة أوربا ، ايطاليا وتونس وليبيا ، هي أقرب الدول الى هذه الجزيرة . سكانها يقارب الأربعماءة ألف نسمة . مما وَلَّد لديها كثافة سكانية عالية جداً . غالبية سكانها مسيحيون كاثوليك . فتحها المسلمون سنة (255) للهجرة ، بقيتْ في حوزتهم حتى سنة (485هـ – 1090م) ، حيث سقطتْ بأيدي الافرنج . بعد ذلك احتلها البريطانيون .
وأبرز ما في هذه الجزيرة ، هو العاصمة فاليتا . وقد أسسها فرسان الكنيسة في القرن السادس عشر الميلادي .
مع هذه الجزيرة ، كان لي موعد لقاء في اكتوبر / تشرين اول عام 1981 ، فقد حططتُ الرحالَ فيها ، في نهاية رحلة بدأتُها من مدينة (فينسيا / البندقية) الايطالية .
وكانت لي لقاءآت مع شخصيات عديدة في جزيرة مالطه ، أهمها اللقاء مع رئيس وزرائها الراحل دومنتوف . لكن رئيس وزرائها الحالي كان دقيقاً في التعبير عن ظاهرة ، مؤلمة إنسانياً ، وهي ظاهرة اطلق عليها اسم (الهجرة غير الشرعية) ، حين قال : لقد تحول البحر الابيض المتوسط الى مقبرة للأحياء .
الهجرة ، في معظمها تنطلق من الساحل الافريقي (العربي) ، متجهة نحو الجنوب الاوربي ، مارَّة بالقرب من مالطه ، ومن ثم صقلية ، فايطاليا . وتعرض المشاركون في هذه الهجرات ، الى الغرق ، وكان الضحايا بالمئآت .
فاذا طرحنا سؤالاً ، مثل : لماذا يهاجر الشباب خاصة ، فان الجواب : بحثاً عن العمل بالدرجة الاولى ، وهرباً من الاضطهاد السياسي والديني والمذهبي أيضاً . والمعالجة تكمن هنا . في ايجاد فرص العمل ، وايقاف الاضطهاد ، ومراعاة حقوق الانسان . عندها لا يتحول البحر الى مقبرة للأحياء .