23 ديسمبر، 2024 6:02 ص

مقاييس وهمية تصنع الحروب وتقتل الشعوب

مقاييس وهمية تصنع الحروب وتقتل الشعوب

تختلف المقاييس باختلاف المواد والقضايا المراد قياسها، فمقياس سرعة الرياح ثابت ويختلف عن مقياس قوة المحركات وهو الاخر ثابت ومقياس صرف الكهرباء ثابت ويختلف عن غيره من المقاييس وهكذا دواليك. وتختلف المقاييس في القضايا المادية عنها في القضايا المعنوية او قل غير المادية، فالمقاييس التي تستخدم في القضايا المادية موحدة عند الجميع، فمقياس الزلازل والهزات الأرضية الذي يسمى (رختر) تعمل به كل مراكز الرصد الزلزالي. اما مقاييس القضايا المعنوية غير متفق عليها وان اشتركت ببعض الجزئيات، منها هل ان الدين يبني الفرد والمجتمع ام انه عكس ذلك؟ فريق يذهب الى الأول وفريق يرى القول الثاني، وكل لديه مقياسه ومنظاره الذي ينظر من خلاله للدين. وقد يحصل تغير في المقاييس بالنسبة للشعوب نتيجة خوض تجارب معينة كالتجربة المسيحية في القرون الوسطى وبروز العلمانية كبديل عن الدين في اوربا، وكالتجربة العراقية بعد سقوط النظام البعثي في نيسان 2003م، حيث فسح المجال امام الأحزاب الإسلامية لتصل الى حكم العراق، فقد كان لها التأثير الرئيس في تغيير وجه نظر المجتمع للدين، فمقياس المجتمع للدين والمتدين خضعت لنمط مغاير عما كانت عليه سابقا.

قضيتان رئيستان تهمان مجتمعنا لا بد من دراستهما بشكل مستفيض لأنني اعتقد انهما قد تم التلاعب بمقاييسهما ـــ لا يعني هذا انني اريد حصر التلاعب بمقياس هاتين القضيتين وحسب بل ثمة الكثير من التلاعب في قضايا أخرى لكن لأهميتهما التي جاءت نتيجة تماسها مع الناس خصصت ذكرهماـــ القضية الأولى: مقياس المرجعية وقيادة الشيعة او قيادة الحوزة العلمية، فالتصنيف الذي ساد في الآونة الأخيرة يختلف عما كان عليه سابقا، فقد ساد مفهوم المرجع الأعلى، والمراجع العظام، ومراجع الصف الأول والصف الثاني.

القضية الثانية: العداء العربي الإسلامي الإسرائيلي، الذي تربت عليه الشعوب العربية والإسلامية وفي المقابل ترسخ هذا العداء عن الشعب اليهودي او قل الإسرائيلي.

لعل القارئ الكريم يستغرب للوهلة الأولى من اختيارنا لهاتين القضيتين فيظن انها من قبيل النقيضين فلا يجتمعان ولا يرتفعان فكيف جاز لنا جمعهما في مقال واحد؟ اطلب من القارئ الكريم ترك الاحكام المسبقة التي عادة ما تكون تحصلت نتيجة مؤثرات خارجية لم تخضع للنقد والتحليل بل انها باتت من المسلمات الوهمية الأصل، أضف الى ذلك ان ثمة غايات مشتركة في التلاعب بمقاييس القضيتين سيتضح من خلال سياق الحديث.

الكلام عن القضية الأولى: يعتقد الشيعة الامامية عموما بضرورة تقليد المجتهد الجامع للشرائط الفقهية التي ذكروها في كتب الفقه والرسائل العملية في حال كان المكلف ليس مجتهدا او محتاطا، قالوا:

(يشترط في المجتهد أمور: البلوغ والعقل، والايمان والعدالة، والرجولية، والحرية -على قول -وكونه مجتهدا مطلقا، فلا يجوز تقليد المتجزئ ، والحياة ، فلا يجوز تقليد الميت ابتداء . نعم يجوز البقاء كما مر ، وأن يكون أعلم فلا يجوز – على الأحوط – تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل ، وأن لا يكون متولدا من الزنا ، وأن لا يكون مقبلا على الدنيا وطالبا لها مكبا عليها مجدا في تحصيلها ، ففي الخبر : ” من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه “). مستمسك العروة الوثقى السيد محسن الحكيم ج 1 ص 40

والملاحظة التي يجب اخذها بنظر الاعتبار ان هذه الشروط شروط المجتهد وليس شروط قيادة الامة؛ لوجود الفرق الواضح بين من يبلغ رتبة الاجتهاد بالمعنى الفقهي والمجتهد الجامع لهذه الشرائط مضافة لها صفات القيادة، فلا يمكن الجمع بين المجتهد بالمعنى الفقهي والمجتهد القائد، والسبب واضح فثمة مجتهد عاش بين الكتب الفقهية والاصولية والنحوية ولم يفهم واقع المجتمع فلم تنم لديه صفات القائد القادر على فهم واستيعاب متطلبات المجتمع. وعندما قال الفقهاء في كتبهم الفقهية ورسائلهم العملية ضرورة تقليد الاعلم لم يحددوا أعلميته بماذا، فينصرف الذهن الى ان الاعلم يجب ان يكون في الفقه والأصول. وهذا اول خلل في المقياس الذي يحدد على أساسه اختيار المرجع الواجب اتباعه. وبطبيعة الحال سيقول بعضهم: من المسلم به ان الاعلم هو الاعلم بالأصول والفقه او يقول البعض الاخر الاعلم بالفقه (بمعناه الضيق لا المعنى القرآني الحقيقي لمفهوم الفقه) لأنه الثمرة المترتبة على كل العلوم التي يدرسها الفقيه. ان من يتبنى هذا الراي من يعتقد ان الدين عبارة عن صلاة وصيام وحيض ونفاس، ولا دخل للدين في بناء المجتمع والحياة بشكل عام. اما الذي يتعامل مع الدين على أساس انه مقوم لكل جوانب الحياة فيرى ان هذه الشروط غير كافية للرجوع لمن اتصف بهذه الشروط؛ لأنه لم يتمكن من مجاراة متطلبات الفرد والمجتمع، فالمجتمع لا يبنى بالصوم والصلاة فقط بل يضاف الى ذلك النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنظريات الفكرية التي ترسم معالم الهوية الاسلامية والسبل الكفيلة لحماية المجتمع من كل المخاطر الخارجية والداخلية.

ان المرجعيات التي تلت زمن الغيبة الصغرى وهي الأقرب الى زمن النص لم تك مرجعية فقهية وحسب بل كانت تمثل قيادة للامة، وكانت ساعية لبناء مجتمع نظيف.

كان يطلق على السيد الخوئي (قدس سره) زعيم الحوزة العلمية، أي ان هذا العنوان جاء من تزعمه للحوزة العلمية فهو أستاذ لجميع العلماء الذين عاصروه والذي بقي قسم منهم الى اليوم، وقد استحق ان يطلق عليه هذا العنوان، مع ان الشيعة كانوا يرجعون اليه بالتقليد الا ان العنوان الذي كان يكتب على مؤلفاته في وقتها زعيم الحوزة، فالحوزة شيء والطائفة شيء اخر، فالسيد الخوئي (قدس سره) لم يك قائدا او زعيما للامة لكن عنوان زعامة الحوزة يتلاءم معه. اما في حال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لم يحظ بلقب الزعامة للحوزة العلمية الا انه كان قائدا وزعيما للامة مضافا الى استحقاقه زعامة الحوزة العلمية فقد كان مميزا على مستوى العلوم الدينية بشكل لا يقبل الشك وقد شهد له السيد الخوئي نفسه بالألمعية. فمن كان يقف خلف التلاعب بالمقاييس التي تحدد الزعامة الحوزوية وقيادة الامة؟ فاذا كان المقياس هو الأعلمية فباقر الصدر هو الاعلم، وهو المجدد فلم لم يك هو الزعيم؟ ايراد للناس ان تتبع عالما له نمط معين يتماشى مع مقاييس وتوازنات لا علاقة لها بما أعلنه علماء الدين؟

من المؤكد ان ثمة عوامل تؤثر بشكل مباشر على اختيار شخص المرجع او القائد للامة، من اكثر هذه العوامل تأثيرا هي الطبقة المباشرة التي تتأثر بطبيعة شخصية المرجع، واعني بهم الحاشية المقربة من صنع القرار الحوزوي، فثمة مفاصل مهمة يسيطر عليها هؤلاء منها الوجاهة والقداسة التي حظوا بها ابان خدمتهم للمرجع السابق، فيبحثون عمن يلبي طموحاتهم اما اذا كان على خلاف رغباتهم فيقفون ضده وان كان يستحقها بجدارة، كما فعلت مؤسسة الخوئي مع السيد السبزاوري (قدس سره) ومع الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والسبب ان هذين العلمان لم يخضعا لشروط المؤسسة. لم يك مفهوم المرجعية العليا متداولا في زمن السيد الخوئي (قدس سره) وانما اشيع هذا المصطلح بعد سقوط حكومة البعث، فمن وراء إشاعة هذا المصطلح؟ وهل انه خاضع للمقياس الصحيح الذي على وفقه يصح ان يطلق على المرجع الفلاني؟ إذا كان المقياس هو كثرة الاتباع فهذا المقياس ليس صحيحا لتأثره بظروف وعوامل منها الأموال والمصالح وهيمنة البعض على اراء المجتمع وغيرها، ولعل أوضح مثال ما حصل مع علي بن ابي طالب (عليه السلام) فالجميع يعلم انه الاحق والأفضل لقيادة الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) الا ان القوم استطاعوا ان يبعدوه عن منصبه الشرعي. فالشياع لا يمثل الحقيقة والمقياس الصحيح. ولعل البعض يقول المقصود من الشياع عند طلبة الحوزة، قلنا: ان الأموال يشترى بها ذمم الكثير بخاصة ان طالب الحوزة لا يتقاضى أجورا مرتفعة تسد رمقه، وهذه الحالة مقصودة ليبقى تحت رحمة حواشي المرجع، ولولا الأموال التي يمتلكها براني المرجع الفلاني والمكتب الفلاني لكان ثمة راي اخر فكثير من طلبة الحوزة يعلنون شيء ويضمرون شيء والسبب ان ثمة عيون تنقل الاخبار وتتجسس على كل من يخالف المطلوب.

وعلى هذا التأسيس فان المقياس الذي أصبح مقياسا عاما تتعامل به القوى الخارجية والداخلية هو حجم الاتباع للمرجع الفلاني دون النظر الى مقياس العلم والورع التي ذكرت في كتب الفقه، فكلما اتسعت رقعة تأثير المرجع وإيجاد اتباع له زاد من تأثيره العالمي على المعادلات والتوازنات الدولية، وهي الغاية نفسها التي سعى لها الذي تلاعب بالمقاييس، فلا ربط بين الشروط الفقهية وبين المقاييس العالمية. وعلى هذا فسيسعى كثير من طلاب المناصب والساعين لها بشغف ان يسخروا الشريعة والدين لتلبية رغبات المسؤولين عن التلاعب بالمقاييس ليزيدوا من حجم اتباعه ليكون أكثر تأثيرا ويوما بعد يوم لم يلحظ مطلب الشريعة بل تلحظ وسائل الشهرة وتلبية رغبات المسؤولين على المقاييس الموهومة. على سبيل المثال لو فرضنا ان مرجعا ما قربت نهايته الطبيعية وله شهرة واسعة الا ان المشرفين على المقاييس أرادوا توجيه الراي العام باتجاه عالم يلبي طموحهم ومستعد لتقديم التنازلات في مقابل الوصول الى اشغال المنصب الذي سيشغر فسيهتمون به إعلاميا للألفات نظر المجتمع اليه ويحجب عنه رؤية العلماء الاخرين الاكثر جدارة منه وبهذا لا يكون امامه الا ما عرض عليه، وطبيعة المجتمع لا يكلف نفسه لتقصي الحقائق والدليل انه يصدق كل ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من قضايا زائفة. في بعض الأحيان يتصور هذا العالم المركز عليه انه استحق ذلك بقدراته وامكانياته الخارقة ولم يلتفت الا ان هذا التركيز جاء لأنه يلبي طموح المتحكم بالمقاييس، وفي أحيان أخرى تعقد صفقات بين الطرفين.

ان الغاية من هذا التصنيف على وفق مقاييس مغلوطة الغرض منه ضرب كل من لا يتلاءم مع الإطار العام الذي تفرضه المصالح العليا للمنتفعين واهل المصالح مهما كان شكلهم.

فليس المرجعية وقيادة الامة بمنأى عن التلاعب الدولي والعالمي لأنه أحد العوامل المؤثرة في التوازنات العالمية، بخاصة إذا ما علمنا ان اهم احتياطي للنفط يتركز في الأراضي التي يسكنها الشيعة، كما انهم يمثلون لاعب أساسي في التوازنات الدينية في المنطقة.

اما الكلام عن القضية الثانية: أتخم المسلمون والعرب جراء الضغط الإعلامي والخطاب الانفجاري في قضية فلسطين وإسرائيل ولم نر لهذا الخطاب أي تأثير ايجابي على ارض الواقع، بل ان الواقع يخالف تماما هذا الخطاب الاستهلاكي الذي نسمعه منذ عشرات السنين، فثمة اتفاقات ومصالح متبادلة بين أصحاب الخطاب العدائي وإسرائيل، وها هي السنين تمضي ولم نجن الا الخطابات الرنانة ضد إسرائيل فهل غيرت شيء من إسرائيل؟ هل أوقفت عجلة تقدمها مثلا؟ أأوقفت من تمددها في فلسطين؟ أتمكن هذا الخطاب من إيجاد راي عام ضد إسرائيل؟ ام ان هذا الخطاب يقتصر على تحريض المسلمين ضد اليهود؟ فما المقياس الذي على وفقه يكون مستوى عداء العرب لليهود؟ لنتحدث بواقعية ولنميط اللثام عن وجه الحقيقة ولا نكون ممن يخدعون بكلمة هنا وكلمة هناك.

ما المنطلقات التي ينطلق منها أصحاب الخطاب العدائي ضد إسرائيل:

المنطلق الأول:

ان الكيان الصهيوني مغتصب لأرض فلسطين العربية، وعليه فلا يمكن التعامل مع الكيان الغاصب المحتل حتى تعود حقوق الفلسطينين إليهم.

مع ان أمريكا أيضا محتلة لدول كبيرة وتسيطر على مقدرات الشعوب فلم التعامل مع أمريكا يختلف عنه مع إسرائيل؟ علاوة على ذلك ان أمريكا هي الراعي المباشر لإسرائيل وهي في مقام الاب لإسرائيل والوصول الى أمريكا والعيش فيها صار حلم الكثير ممن يرفض إسرائيل فكيف تستقيم القضية؟

وهل استطاع من يستخدم الخطاب العدائي لإسرائيل ان يسترد شيء ولو يسير من الأراضي الفلسطينية الى أهلها؟ فهل القضية ترسيخ العداء بين العرب واليهود؟ هل تساءلنا لماذا الاكتفاء بالخطابات الرنانة ولم يتحرك ساكن على ارض الواقع؟

اليس غريبا ان الأموال تصرف على الاقتتال الإسلامي من الإسلاميين ولم يصرف دولارا على مواجهة الجيش الإسرائيلي؟

المنطلق الثاني:

قد يجعل البعض مقياسه في العداء لإسرائيل قوله تعالى في القران: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) المائدة ( 82 )

من هذه الآية ينطلق الى ان اليهود اشد عداوة للمسلمين وعليه لا بد من معاداتهم، الا ان الآية ذكرت هذه القضية في حادثة معينة بدليل الآيات التي تلتها: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( 84 ) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( 85 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 86 )

اضف الى ذلك ان الجرائم التي ارتكبت ولازالت ترتكب بحق المسلمين والعالم اجمع هي تحت اشراف النصارى وبأيديهم الذين نظن انهم اكثرهم مودة لنا ! بداية بالحروب الصليبية التي شنت على المسلمين بقيادة المملكة المتحدة واوربا، فقد قتلوا المسلمين تحت شعار الدين والصليب فاين المودة في ذلك؟

الم يقتل الأطفال والنساء بالسلاح الأمريكي؟ الم تجوع الشعوب بسبب سياسة أمريكا؟ فكيف جاز لنا ان نقيس الأمور بهذا المقياس؟ ثم ان الآية قالت: (بان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون) أيتلاءم عدم الاستكبار في الآية مع واقع المسيحية اليوم؟ ام العكس هو الصحيح؟ حتى ان البعض أطلق عليها دول الاستكبار العالمي.

وقد وردت روايات تبين ان المقصود بالنصارى ليس كل المسيحيين وانما حددتهم على اختلافها الا انها تشترك في تحديد جماعة معينة عنتهم الآية، منها:

المعنى الأول: انهم جماعة كانوا ينتظرون بعثة الرسول الخاتم (صلى الله عليه واله): عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ذكر النصارى وعداوتهم فقال : قول الله ” ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون ” قال : أولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد ، ينتظرون مجئ محمد (صلى الله عليه وآله)) . تفسير العياشي ج 1 ص 335

وقال قتادة : نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى ( ع ) فلما جاء محمد ( صلى الله عليه وآله ) آمنوا به . التبيان الشيخ الطوسي ج 3 ص 614

المعنى الثاني: انها نزلت في النجاشي واصحابه: (قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحابه لما اسلموا ). وقال مجاهد : نزلت في الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب ( رحمه الله ). التبيان الشيخ الطوسي ج 3 ص 614

وروي عن ابن عباس أنه قال : (من زعم أنها في النصارى فقد كذب . وإنما هم النصارى الأربعون الذين فاضت أعينهم حين قرأ النبي صلى الله عليه وآله عليهم القرآن اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام . وسارعوا إلى الاسلام ولم يسارع اليهود ). التبيان ج 3 ص 614

ويمكن الجمع بين المعنيين ونستنتج ان الذين كانوا على المنهج الصحيح لدين عيسى (عليه السلام) الذين ورد ذكرهم في الروايات هم نفسهم النجاشي واتباعه، وبهذا فان المقصود ليس كل النصارى وانما مجموعة معينة، فلا يمكن إطلاق مودة النصارى للمؤمنين ونها باقية سارية المفعول الى اليوم.

كما يمكن ان نفهم ان الله تعالى أراد ان يبين الفوارق في مدى الاستجابة للدعوة المحمدية وان تباينا في شرائح المجتمع فثمة متكبرين وثمة متواضعين:

(وقوله ” وإنهم لا يستكبرون ” معناه إن هؤلاء النصارى الذين آمنوا لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له كما استكبر اليهود وعباد الأوثان وانفوا من قبول الحق ، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن مجاوري النبي صلى الله عليه وآله من اليهود ، ومودة النجاشي وأصحابه الذين أسلموا معه من الحبشة لان الهجرة كانت إلى المدينة وبها اليهود والى الحبشة وبها النجاشي وأصحابه فأخبر عن عداوة هؤلاء ومودة أولئك ). التبيان ج 3 ص 616

قد يعترض أحدهم على هذا الكلام بقوله: ان آيات القران تجري في كل زمان ولم تقتصر على حادثة تاريخية وانتهى الحال؟ قلنا: الاعتراض مقبول ونحن ممن يعتقد بجريان الآيات وانطباقها في كل زمان لكن ليس بالضرورة ان تكون على المصاديق نفسها، فيمكن فهم اليهود في الوقت الحالي كل من يحمل صفات اليهود التي ورد ذكرها في القران الكريم وهي نظرة الاستعلاء وانهم من طبقة مختلفة عن الاخرين، ولو لاحظنا عدد الآيات الخاصة باليهود التي وردت في القران الكريم لوجدنا ان جريانها في عصورنا لا تنطبق على اليهود بل يعنى بها مفهوم اخر، على سبيل المثال لا الحصر اية وراثة الأرض فإنها جاءت ضمن سياق استعلاء فرعون في الأرض واضطهاده بني إسرائيل، قال تعالى:

(إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ( 4 ) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( 5 ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) ( 6 ) القصص

الا ان الروايات الصحيحة التي وردت عن اهل البيت (عليهم السلام) اشارت وبوضوح الى ان خلافة الأرض ستكون تحت قيادة الامام المهدي (عليه السلام)، وان اهل البيت (عليهم السلام) أوضح مصاديق هذه الآية :

عن الامام علي (عليه السلام) في قوله تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) قال : (هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم). الغيبة للطوسي ص 184

وعن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : (إن رسول الله صلى الله عليه وآله نظر إلى علي والحسن والحسين عليهم السلام فبكى وقال : أنتم المستضعفون بعدي . قال المفضل : فقلت له : ما معنى ذلك يا ابن رسول الله ؟ قال : معناه أنكم الأئمة بعدي ، إن الله عز وجل يقول : ” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ” فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة) . معاني الاخبار الشيخ الصدوق ص 79

وعليه فان فرعون وهامان يعنى بهما كل الطواغيت والظلمة في كل زمان والذين غصبوا حق ال محمد (صلوات الله عليهم اجمعين) وثمة روايات تؤكد هذا المعنى.

كما يمكن فهم الآيات في زماننا لتحقق مصداق جريان الآيات في زمان وجيل وتوسيع مفهومها بأخذ العبرة منها وتطبيقها على واقعنا ولا نكتفي بالقول انها وردت في حق اليهود والنصارى:

(ومن هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه ويعلمونه ، وعلى رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل ويشاهدوا حسنه ، وعلى اعتياد عامتهم على الخضوع للحق وعدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم . ولهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ، ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق ومعارف الدين قولا ، وفيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم وأهمية سعادتهم الأخروية والدنيوية عملا وفيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق . وأما اليهود فإنهم وإن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة العناد والاستعلاء أن يتهيأوا لقبول الحق . وأما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء والزهاد ، وفيهم رذيلة الاستكبار) . الميزان ج 6 ص 82

الم يصب مرض الاستكبار والاستعلاء مجتمعنا المسلم؟ وقد وصل الى مستوى المذهب الواحد فمنهم من يرى نفسه فوق الشبهات لأنه ينتمي لجهة ما ويحقر الاخرين لا لعيب فيهم الا لأنهم ينتمون الى جهة تخالفه. الم يرفض البعض تزويج بناته لاعتقاده بأفضليته على غيره؟ وهلم جرا.

المنطلق الثالث:

اليهود تفتت الوطن العربي:

كان درس الوطنية الذي يدرس في كل مراحل الدراسة في العراق ابان حكم البعث قد ركز في اذهان الطلبة ان إسرائيل زرعت في قلب الوطن العربي ليسهل تفتيته او ليسهل الوصول الى كل دول الوطن العربي. في حين ان الوصول الى الدول العربية ليس عسيرا على من زرعها في قلب الوطن العربي! بل ان أمريكا ومنذ زمن طويل سيطرت على مقدرات الشعوب العربية بسيطرتها على حكوماتها، بل لا تتشكل حكومة ما لم تحظ بمباركة أمريكا. إذا كيف نتخذ من هذه المقولة مقياسا لعداء اليهود؟ إذا كانت الحكومات بيد أمريكا وهيمنتها عليها واضحة لا تحتاج الى دليل؟

وهذا يقودنا الى التفكير في تعايش الشعب الإسلامي واليهودي سابقا قبل استحداث دولة إسرائيل فكان الجميع يعيش بشكل طبيعي في العراق وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، الا ان تهجير اليهود من البلدان العربية أسهم بشكل رئيس في تعميق الحقد بين معتنقي الأديان المختلفة لان كثير منهم لم يكن بوده ترك بلده الذي تعددت به الأديان والطوائف. وفي الوقت نفسه أسهمت الحكومات العربية في المشاركة في تأسيس دولة إسرائيل، فكيف يمكن جعل هذه المقولة مقياسا للعداء.

المنطلق الرابع:

التركيز على أفعال الحكومة الإسرائيلية أغفل وجود شعب يهودي:

ان عدم التعامل مع اليهود على أساس انهم اهل كتاب والإسلام يعترف بوجودهم ولهم احكام في الفقه الإسلامي حالهم حال النصارى الذين يتعايشون مع المسلمين.

ركز الاعلام وأصحاب الخطاب العدائي لإسرائيل على تضييع الهوية الدينية لليهود، واغفلت ان ثمة شعب يدين باليهودية، نعم الاختلاف قائم بين الأديان بل الاختلاف بين اهل الملة الواحدة وقد يصل الاختلاف الى الاقتتال وهذا ما عاشته الشعوب مؤخرا، ففي العراق ذهب الالاف نتيجة الصراعات المذهبية، وحصل في بورما ما لم يحصل على مر التاريخ من جرائم والقائمة تطول.

فكل دين له ثقافته وعقيدته واساليبه في نشر ما يعتقد، على ان لا يخالف الإطار العام للبلد وان لا يحدث ارباكا في النظام الاجتماعي.

فاذا كانت الحكومات لها أغراض توسعية تريد التمدد على حقوق الاخرين فما ذنب الشعوب التي تعيش تحت رعاية هذه الحكومات؟ كما اننا نفصل بين الحكومات الامريكية المتعاقبة التي ارتكبت جرائم عظمى ونبرء الشعب الأمريكي من ذنوب الحكومات مع انهم مطالبون بالضغط على حكوماتهم للحد من الجرائم التي ترتكب بحق الشعوب لدواعي متعددة لكن بالشكل العام ثمة تفريق بين الشعوب والحكومات. فلماذا يعاقب الشعب اليهودي على جرائم حكوماته ولا يتم التعامل معهم على أساس انهم شعب أصحاب كتاب سماوي لهم حقوق كفلها الدستور الاسلامي؟ كثير من اليهود ليس مع ما تقوم به الحكومات الإسرائيلية نعم قد يكون متعصبا لديانته الا انه مسالم فقد كانوا يعيشون وسط المسلمين بشكل طبيعي ويشغلون مناصبا في الدولة وثمة تواصلا اجتماعيا بين مختلف الديانات.

لعل بعضهم يقول ان الخوف من أفكارهم التوسعية والحلم اليهودي بالسيطرة على منطقة الفرات والنيل. قلت بأنهم كانوا يعيشون في هذه المناطق منذ الاف السنين ولم تتحقق هذه السيطرة؟ أضف الى ذلك فان السيطرة يمكن تحققها بوساطة الهيمنة الاقتصادية او السياسية او التكنلوجيا، فلا يعقل ان بضع ملايين من البشر يمكنهم الغاء اهل العراق او اهل مصر ونفيهم لتتحقق غايتهم، ولا يفوتني القول ان الولايات المتحدة الامريكية تسيطر على الأرض والجو والسياسة في هذه البلدان وهذا يعني بدرجة من الدرجات هيمنة لإسرائيل أيعني هذا ان هيمنتهم ودولتهم الموعودة قد تحقق على ارض الواقع؟

لماذا تبقى المجتمعات والشعوب خاضعة لمقاييس ومعايير وهمية لا تمت الى الواقع بصلة انما وضعها من يريد الانتفاع سواء كان على مستوى اقناع الشعوب العربية والمسلمة بوحش اسمه اليهود او اقناع اليهود بان المسلمين يسعون لاستئصالهم من المعمورة، لما لا تكون قنوات عقلانية لوضع الشيء في محله؟ لم لم ترسم الحدود الفكرية بين الديانات ليامن الجميع شرور الاخرين ولا يفسح المجال امام من يعتاش على دماء الانسان مهما كان دينه او عرقه؟

إذا لم يحصل تلاعب بالمقاييس التي على أساسها يعادي الانسان انسانا اخر او يقاتله؟ فمن المنتفع من خلط الأوراق وضرب الشعوب فيما بينها؟ فالذي تلاعب بمقاييس القيادة الدينية نفسه تلاعب بهذه المقاييس لا يختلف عنه فاليد نفس اليد كل ما في الامر انها تأخذ لون البيئة التي تعيش فيها كما تفعل الحرباء، فقد تجد حرباء صفراء لأنها في مكان اصفر وقد تجد حرباء زرقاء لان محيطها ازرق فتختلف بلون جلدها الا ان حقيقتها واحدة فلو ان واحدة منها انتقلت لجوار الأخرى فسيكون لونها واحد.

علينا إذا ان نصحح مقاييسنا لتكون قراراتنا ومواقفنا مبنية بشكل صحيح ولنوقف سيل الدم والحروب التي يخوضها الأبرياء نيابة عن ذوي المصالح.

المنطلق الخامس:

التركيز على ديانة اليهود دون ملاحظة جنسيتهم:

من الملاحظ ان اليهودية لا تختص ببني إسرائيل، بنو إسرائيل هم الذين يرجعون بنسبهم لأبناء يعقوب (عليه السلام) اما اليهودية فهي الديانة التي تتخذ من موسى (عليه السلام) رسولا وتعمل ظاهرا بالكتاب الي جاء به وهو التوراة، ومن المؤكد ان كثيرا من العرب دانوا باليهودية، لكن يوما بعد يوم غابت جنسيتهم وبقت ديانتهم، وهذا الامر لم يحصل مع الذين تنصروا، فثمة قبائل ظلت محتفظة بعروبتها وأسماء عشائرها كتغلب وكلب وغيرها حتى ان دولة الغساسنة كانت تدين بالمسيحية وهم عرب. لكن اليهود لم يلحظ فيهم جانب الجنسية والانتماء للوطن الذي يسكنونه وانما التركيز على ديانتهم. ولعل هذه الحالة جاءت نتيجة تعصبهم لدينهم أكثر من بلدهم الذي يعيشون فيه، الا ان الخطأ ان الحكومات العربية هي من أسهم في ترسيخ هذه القضية كما فعلت الحكومة البعثية عندما هجرت كل من له أصول فارسية الى خارج البلد ولم تلحظ انه عراقي وان ولادته في العراق ودراسته فيه ولغته عربية، ففي عملية تسفيره الى خارج العراق خسر العراق مواطنا كان بالإمكان الانتفاع منه في بناء البلد، فالنظام البعثي لم يلحظ ولاءه للعراق وانتماؤه الحقيقي للعراق وانما لحظ ان اصوله من إيران فقام بتهجيره. فلو ان الحكومات العربية ركزت على انتماء اليهود الوطني وساعدتهم في ترسيخ روح المواطنة كما عليه كل الأقليات والفرق الموجودة في العراق، فالمسيحي العراقي يقدم عراقيته على الفاتيكان، والصابئي عراقي لا يقل شانا عن المسلمين وهكذا كل شرائح وطيف الشعب العراقي.

وإذا كان اليهودي يشعر بانتمائه لدينه أكثر من انتماءه لوطنه الذي ولد وترعرع فيه وقد يكون مستعدا لتخريب وتدمير وطنه من اجل مصلحة دينه فهذا لا يقتصر على اليهودي وحسب فبعض شيعة العراق أسهموا في تدمير العراق بسبب ما يسمونه عمقهم الشيعي في إيران، يدمر اقتصاد العراق ليزدهر اقتصاد إيران، يفكك النسيج الاجتماعي العراقي ليقوى النسيج الاجتماعي الإيراني، يقتل شباب العراق ليحفظ شباب إيران، وسنة العراق فعلوا الشيء نفسه حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، ليحافظوا على عمقهم السني سواء كانت السعودية او تركيا. أيختلف المسلم عن اليهودي؟

في الختام اريد الإشارة الى موضوعة مهمة، ان الخطاب العدائي الذي يتبناه البعض ما هو الا ذر الرماد في العيون، ومحاولة لإشغال الراي العام بقضية بعيدة كل البعد عن الهدف الحقيقي، وعملية خلق وإيجاد الأعداء الخارجيين أصبحت أساس منهجية الباحث عن البقاء ليلبي طموحاته الجامحة ولو لم يوجدوا عدوا يشغلوا به المجتمعات لانتبهت هذه المجتمعات الى ظلم المتصدين لإدارة الأمور ولعملوا على ازالتهم من الوجود، ويحق لي ان اقتبس كلمة لاحد عظماء الإسلام حينما شخص القضية بشكل دقيق ووضع اصبعه على موضع الجرح الا ان المجتمعات لا زالت خاضعة للإعلام المضلل والمقاييس الوهمية التي أسهمت في قتلهم في وضح النهار، يقول:

(عندما يهتم المسلمون اليوم بأمر الدولة الصهيونية ويسعون الى ازالتها، عليهم ان يلتفتوا الى ان هذه الدولة ما هي الا احد الاعراض المرضية التي تظهر على جسد الامة الإسلامية نتيجة وجود مرض كامن فيها هو الأصل والعلة لهذه الاعراض، والمرض هو ابتعاد المسلمين عن المنهج الإلهي في حياتهم فلا ينبغي لهم الاهتمام بالأعراض المرضية والغفلة عن علة هذه الاعراض، ويكون مثلهم كما يجري في ساحة مصارعة الثيران فالثور الهائج يركز كل همه وعدائه وغضبه وقوته على الخرقة الحمراء ويغفل عن المصارع الحامل لها، فراح هذا المصارع يغرز في عنقه الخناجر التي تصيب مقتله وهو غافل عنه حتى يموت ويفنى. فلا يكون حالنا كحال الثور).