في تجسيد شعور البدايات , يقول رفعان العرجاني :((كرامة الشخص ثروة والسوالف بلاش , أخلّي القلب يروى عشق ولا أمنعه ؟ أخاف لا أفقد وقاري لو بديت النقاش ,
وأشعر برغبة ملحّة للسوالف معه )) , ترويض الآهات والتنهدات , بكم تسكنُ الآهات , وتستريحُ العبَرات وتُجبَرُ العثرات , وتنزلُ السّكينةُ , ويطمئنُّ الفؤاد ,فكم من شفاهٍ ضحِكت بكم , وكم من محب ابتهج بلقائكم , وكم من محسوب دعا وشكر.
هي حكاية الأزمان في كل مكان , ولكل زمن إيقاع , كان الشجن يملأ العروق , الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن عشق الوقار , فلكل زمن إيقاع , ليس فقط زمن الحب قد ذوى , بل ذوى معه زمن المبتكرين الذين صنعوه ورصّعوه , كم نحن , أهل الماضي , مدينون لأغاني زمان , كم فرحاً , وكم طرباً , وكم شجناً ملأت عروقنا , لكنها بعدت في غياهب اليوتيوب , ونحن بعدنا في السنين , ودارت الأيام , على جري عادتها.
كم طوّعنا غناء القصيدة , وروّضنا الآهات والتنهدات , تغيّر زمنها , وتغيّرت أجيالها , وغادر الشعراء من متردم , لم يعد مألوفاً أن تغنّي سيدة طوال الليل , والناس تهتف , لم يعد مؤنساً أن يكون أعضاء الفرقة الموسيقية قد تجاوزوا السبعين , كل شيء لم يعد كما كان , وأصبحت الأغاني من كنوز (( ماسبيرو)) القديمة , قلة تعرف رياض السنباطي اليوم , وقلة تملك الوقت للاستماع إلى الأغاني الطويلة , والمسرح الملتهب حماساً.
يقول أنطون تشيخوف في رواية (السيدة صاحبة الكلب ) : (( هناك حب لا يُنسى , يبقى متجذرًا في القلب حتى بعد أن يمضي كل شيء , تظن أنك تجاوزته , أنك تحررت منه , ثم فجأة , في لحظة عابرة , تسمع صوتًا يشبه صوته , أو تلمح شخصًا يحمل ملامحه , فترتجف روحك وكأنك التقيته من جديد , لكنك تعلم , في أعماقك , أن ما ضاع لا يعود , وأن بعض المشاعر تبقى حبيسة القلب , لا تبوح بها , ولا تموت أبدًا , إنها تظل هناك , تنبض في صمت , كجمر تحت الرماد , تنتظر نسمة واحدة لتشتعل من جديد , فهل الحب الحقيقي هو الذي ينتهي , أم ذاك الذي يبقى , حتى لو لم يعد له وجود؟ ))
فى مجتمعاتنا , لا يتكلمون بالسوء عن الخيانة , والكذب , والغش , وقهر النساء , مثلما يتكلمون بالسوء عن الحب , ولولا الحـب , ووقار العشق , لما عرفنا أجمل الأغنيات والموسيقى , وأروع حكايات التضحية والوفاء , ولما قامت , أعظم الثورات ,ولما اكتشفت مواطن الداء , والشِفاء , وحينما تموت قصة حب , تبكي السماء , وحينما يفترق حبيبان , تتجهم الأشجار , وحينما يتخاصم عاشقان , يختفي الوجه المضي للقمر , ليس عندى أدنى شك , أننا حين نمشي في جنازة حكاية عشق , تمشي معنا الزهور, والبلابل , وأمواج البحر, وقبور العشاق ليست قبوراً , هي حدائـق تغني بالذكريات , حولها الورود , وتغريد الطيور ينشد فوقها : هنا يرقد رجل , ذاق الحب حتى الموت , وهنا بقايا امرأة , عشقت دون أمل .
يقول ابن الفارض : (( ما بالُ وقاري فيكِ قدْ أصبحَ طيشْ , واللّهِ لقد هَزمْتِ مِنْ صَبْرِيَ جَيشْ , باللّهِ , متى يكونُ ذا الوَصْلُ متى , يا عَيشَ مُحبٍّ تَصِليهِ , يا عَيْشْ )) , والوهم عندما يتغلب على وعي البشر يمتلكه ويسخره لغاياته الوردية الأنتشاء , والأوهام بأنواعها لذيذة وتستلب الألباب وتسخر المبتلين بها للعمل بموجبها , كانت القصائد , الوعود , التراتيل , مجرد أضرحة لأحلامنا الخائبة , حزن أحمق , يكفر بوحدانيتك بين أضلعي والجنبات , وحين كبرنا , وعانينا من انسداد في الشرايين , كان ذلك سببه شريان الاحساس , حيث كانت الشهقة عندنا , نصف التفاتة لاتنتهي , حين يلتصق الرمش على الرمش , لتنزل دمعة حارة , فهل يعقل؟ بعد كل هذا الحب أن نهزم؟
عندما كنت اكتب عنك بكل ذلك الوقار , كانوا يقرؤنك بين حروفي وكلماتي , فيحسدونك , فماذا لو سمعوا نبضات قلبي حين تناديك ؟ وأرواحنا تتعافى بِقرب من نحب , وصباح خيرك , آه من صباحات خيرك , تكتبني يمامة بوح على صفحة القلب , فأغمضعيني على طيفك الندي , وأكتب مستترا (( الى احدهم , انت جميعهم )) , واليوم يقول جماعة الحب الفيسبوكي : (( كلنا أصبحنا بيانات , تتذكرنا الأشياءُ أكثر مما نتذكرها , حتى الحنينُ صار مجرد إشعار , ينبثقُ في زاويةِ شاشةٍ باردة , وفي رقاقات السيليكون المضيئة ,أكتب لك رسائلَ لا تقرأها العيون , لكنها تسكن في خوارزميات الحنين , حيث تتحول الكلمات إلى أرقام , والأشواق إلى كوداتٍ غير مرئية )) .