كتب كاظم الرويعي نصا جميلا , غناه طالب القرغولي مطلع السبعينات , يقول فيه :

(( هذا انه نهر عطشان يا ذلة النهران من تعطش , هذا آنه بديك ألتم , بديك انطش , ولا شالن اجفوني غيض , ولا گتلك كتلني الگيظ بس يفلان احذر حوبة النهران من تعطش )) , ما كان لهذا النص ان يعرف او ليكون فاعلاً لولا انْ يلحنه الرائع طالب , إذ كان هناك شعراء كبار لاينافسون , استطاعوا أنْ يفتحوا آفاقاً جديدة في تحولات القصيدة الشعبيَّة , وأضفوا صفة الحداثة على الكتابة الشعرية , كان الرويعي صوتاً ستينيّاً متميزاً بحدود تجربته ولونه , هذا التميّز المراوح فنيّاً بين القدامة والحداثة , وشكل قصيدة الأغنية , حيث الميل للمقاصير داخل القصيدة .

 

التضاد بين النهر والعطش من المحن الوجوديَّة التي تُنازع الشاعر وينازعها من أجل وجود حياتي أنقى وأرقى , من أجل فجر تحتضنه عيون الأهل , والفجر هنا انتظار الغائب , والعيون راصد مستمر لهذا الغياب , الغياب المُتحسّب له بلوعةٍ وحسرةٍ تقوّضان الحلم , خشية أنْ (واخاف العمر يخلص بيك ) , وفي الشعر , هذه هي محاولة التحديث بالمعاول القديمة , لأنَّ كل ما يشغل هذه الشعرية أنْ تمسك شكل قصيدة الأغنية , وهذا سر نجاح هكذا قصائد , عندما تلحن الى أغانٍ ما زالت تُشكّل حضوراً فاعلاً في مسار الأغنية العراقيَّة الجديدة .

 

يدفعنا النص لأن نتسائل , هل تمر الأنهر بطابق من طوابق السماء ؟ وهل ذهب شاعرنا إلى الله سباحةً وكان معه النهر ماءً متصوفاً وطروبا ؟ ربما في الشعر الرويعي وحدهُ تصعد الأنهرُ إلى هناك , لتجعله يقول ما يعلمهُ العارفون من الناس , فبعد أن تكوّنت أجسادُنا من طّمْي النهران فقد لا يستغني الله عن استعادة ماء يرسلهُ للأرض طيناً للخلقِ وسّيلاً للرحيل أو التغيير , فنحن أولاد الغِرْين رطبين أو يابسين.

 

ترى متى يصبح النهر مضيئاً ؟ حين يعطش ؟ فيتحفز لتنهض الطاقةُ في خلاياه الباطنية ,

وهل ان ما بين طاقةُ الظاهر المتيبس والباطن المترطب بنكهة اللغةٌ المسورة بألف حجاب , إلا الممحاة ؟ الصديقة التي عادةً ما تُنجي النصوصَ من الخراب , وهل بالمحو وحدهُ تجترحُ المخيّلة تجاربها ؟ونحن الذين نظن أن التجريب فأسٌ للنحت , فيما اختصاص الممحاة يتعلق بخلق النصوص وهي بالأرحام .

 

كان العراق مجموعة أنهار تصبُ في مجرى التاريخ دون لائمة من أحد , ألا ان شهدت أجندة الغرب , وأصابع العرب , غيلته , فتم اغتياله , أثقلته زج الرماح في ألأرواح , أصابوا الطيبة فشيعوها , أسجفوا العشير طوائفَ , وأسرجوا الدستور عرقيًا , لَمَّ اللهُ شعثَك ياعراق , بين رافديك , سأقف لألملــــم شتات ظلي , ونسيج الصمت في دجلة والفرات يئن الكلم في جوانحي , ممزوجًا بدم الأحبة , ووحشة الغربة , فقايضني الألم بحورًا , وحسرة تنز من الأدمة .

من هنا ولد هذا النص , فألأحلام ليست منحنية , والدرسُ الذّي علّمته إيّاهُ الأشجارُ مازالَ أخضرا , والضوءُ الّذي ادّخرته ُ , مازال يكشفُ المسرّات , والعشقُ الذّي يسكنُه , مازال يحتفي بالقبل , فالولادات اليانعة , أنجبتْها فكرةٌ عفيفة لحلمٍ طويلٍ ,تشبه الوطن , حين كنا نتمرّن على مختلف الألعاب كتابةً ثلاثية الأبعاد دون خوف أو احباط يجعل من نصوصنا مدافن مسبقة الصنع.

 

غادرت لميعة عباس عمارة النهر , والدنيا , فكتبو لها :

 

(( لَميعةُ فَكَّتْ شَعْرَها وتَنَهَّدَتْ وغَنَّتْ مِنَ الحُزْنِ العِراقيِّ ألحانا

لِأهوارِها عادتْ لِتَلْقى طُيُورَها بلا قَصَبٍ والطينَ يَكْدَحُ عَطشانا

كأيَّةِ أُنثى لا تُؤجِّلُ دَمْعَها رأَتْ أرضَها الأُولى ولَمْ تَرَ إنسانا

كشاعرةٍ لَمْ يُنجِبِ الحُلْمُ مِثْلَها حَكَتْ لِمُريديها جميعَ الذي كانا

تُجَمِّعُ مِنْ نخْلِ الأساطيرِ باقَةً لِتَغرِسَ في ثِلْجِ المُحِيطاتِ بُستانا

تُبَشِّرُ بالأُنثى الزعيمةِ دائمًا وتَحْكُمُ بالشِّعْرِ المُعَظَّمِ بُلْدانا

كأيَّةِ مَندائيَّةٍ مُستهامَةٍ تقولُ لِماءِ النهرِ : قُدِّسْتَ مَوْلانا )) .

 

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات