أرسل لي د. تحسين طه أفندي فلم قصير أحتوى قصة عن الكرم والتسامح , ولما شرعت بكتابة نص مقامة عن موضوعها , تذكرت بيت شعر قرأته في كتاب البيان والتبيين للجاحظ , يقول : (( يتقارضون اذا التقوا في موقف…نظرا تزل به مواقع الاقدام)) , ومايهمني من البيت كلمة يتقارضون التي تقول المعاجم , (( تَقَارَضَ الرَّفِيقَانِ الْمَوْقِفَ : تَبَادَلاَهُ )) .
قال النبي : (( إن لله آنية من أهل الأرض , وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين , وأحبها إليه ألينها وأرقها )) , هناك قول لمحمد الاحمد : (( لطعم القهوة أبطال , تقهرهم رائحتها الطيّبة , أكثر مما فيها من قدسيّةِ رشفٍّ رائقٍ )) ,وفي هذا السياق قصة تشابه قصة الدكتور تدعو للتأمل , في مجلس أحد المشايخ كان ابنه يصب القهوة والشاي للضيوف , فانسكب منه شيء على الفرش , فما عنَّف ابنه , ولا صرخ عليه , بل قال : (( وللأرض من كأس الكرام نصيب )) , أي انه جعل هذا من الكرم الذي يُكافأ عليه , لا من الخطأ الذي يعاقَب عليه , وفي اﻷثر: لا تضربوا أولادكم على كسر آنيتكم , فإن لها آجالاً معدودة .
قيل أن أعرابياً كان جالسًا على مائدةِ أحد الأمراء ، فتناول كأسا فانسكب منه شيء بغير قصدٍ على الأرض , فأصبح في موقفٍ محرِج أمام الأمير , لولا أنه ارتجل بيتين من الشعر فقال :
(( شربنا شرابًا طيّبًا عند طيّبٍ
كذاك شـرابُ الطيبين يطـيبُ
شربنا وألقينا على الأرض فضْلةً
وللأرضِ من كأسِ الكِـرامِ نصيبُ ))
فصار الأمير بعدها يسكب شيئا من الكأس على الأرض ويقول : وللأرض من كأسِ الكرام ِ نصيب.
وهناك رواية مشابهة عن ذلك الإعرابي الذي سافر مع أخ له ومروا بقوم من طيئ , وضيفوهم بمائدة , وفي أثناء الأكل كان أخوه يسقط الطعام علي الفراش فارتجل هو هاذه الأبيات وتركها لهم مستترا بها علي أخيه : (( أكلنا طعاما طيبا عند طيئ .. كذاك طعام الأكرمين يطيب , أكلنا فأبقينا علي الأرض فضلة .. وللأرض من كأس الكرام نصيب )) .
(( شربنا شرابا طيّبا عند طيّب … كذاك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة … وللأرض من كأس الكرام نصيب ))
قيل لبعض العرب: ما أمتع لذات الدنيا؟ قال : ممازحة الحبيب بلا رقيب , وقيل :
(( طوبى لمن عاش عشر يوم … له حبيب بلا رقيب )) , قيل لسقراط: أيّ الأشياء الذّ ؟ قال: استفادة الأدب , واستماع أخبار لم تسمع , وقال أفلاطون: إذا أردت أن تدوم لك اللذة , فلا تستوف الملتذّ به بل دع فيه فضلة , قيل : ما فات مضى وما سيأتيك فأين؟ قم فاغتنم اللذة بين العدمين , وقال بعضهم : (( اسكن إلى سكن تلذّ به … ذهب الزمان وأنت منفرد)) , ونعود لأفلاطون : (( ما ألمت نفسي إلّا من ثلاث , من غنيّ افتقر, وعزيز ذلّ , وحكيم تلاعبت به الجهّال )) .
ولما كان القولَ المعروف: نهايةُ كل شيء بدايةٌ لشيء آخر , هكذا المواقف تخلد الرجال , وليس ما قد بلغ من بعض سقيمي العقل وضعيفي الرأي أن المال يضمن له الخلود ويعطي له الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ .