مقاومة التوجيه الفكري والسياسي الزائف الذي يُحاول التسلل عبر المناهج الدراسية أو الخطابات الإعلامية المُضللة .
أصبح الحق غريبا , تنبحُ الكلابُ عليه , تتطايرُ أنفاسُها شررًا في ليلٍ بارد , لكنه لا يهتزّ , تمدُّ شجرته جذورَها في أرضٍ من حبر , وترفعُ أغصانَها نحو القمر , تقول : النباحُ ريحٌ عابرة , أما أنا فصوتُ الينابيع , وحبرٌ لا يجف , وتضحكُ من ضجيجٍ يتكرّر , فتكتبه بيتًا من سخرية , وتحوِّلُ عواءَ الخوف إلى نشيدٍ مقاوم , فشجرة الحق مؤمنة أن الكلابُ سترحل , والصمتُ بعدها سيبقى , لكنها ـ وحدَها ـ تظلُّ مشتعلةً , كجمرة الروح لا تُطفئها أنيابُ كلاب مسعورة .
يلتفت الحق مخاطبا قارئي كتب الكفر : (( ياأبنائي لا تُسرفوا في الردّ , فما النباحُ إلّا ضيفُ ليلٍ لا يعرفُ معنى النهار , اتركوهم يعوون , واجعلي كلماتكم أنهارًا , كلّما جفّت ضفةٌ سالت ضفةٌ أخرى , وتذكّروا : القصيدةُ لا تنتصرُ بالصرخات , تنتصر بما يخلّفه صمتُها العميق في قلوبٍ لا تنام )) , تبتسم القصيدة , تضمُّ كلماتِ العجوز إلى صدرها , وتكملُ اشتعالها , بوهجٍ أجملَ وأقوى , لأنها ولُدتْ للتو من رحم رشيد بعقل حكيم .
يدخل الحق هرما , محني الظهر, يحمل في عينيه بقايا حبرٍ يابس , ويهمس لجيل الشباب ,
(( في العالم أماكن كتير جميلة , ولكن لا مكان يشبه الوطن ,هذا الزمن يُدان فيه الصادق ويُكرَّم فيه المخادع , فقط لأنه نجح في التسلل إلى قمم السياسة والاقتصاد وحتى زعامة القبيلة والعشيرة عبر أبواب الكذب والاحتيال وشراء الذمم والاصوات , وفي هذا العالم , لا يُكافأ النبيل بعلو المكانة , بل غالبًا ما يُقصى ويُهمّش , بينما يُفتح الطريق أمام من تجرد من الفضيلة وتسلّح بالمكر , ومَن يملك زمام الأمور اليوم ليس الأكثر حكمة أو عدالة , بل الأكثر قدرة على الالتفاف والمراوغة , ومع غياب البوصلة الأخلاقية , تتغير المقاييس , وينقلب الميزان , فيصبح الكاذب فطنًا , والجاهل ملهمًا , والمنافق قائدًا , وكما وصف إيليا أبو ماضي هذا الواقع بقوله : (( ذهب الصدق وجاء الكذب , وتولى الناسُ التهريجا , صار الكاذبُ يُدعى فطناً , وأُطلقَ للجاهلِ تأليها )) .
تراهم ذبابٌ يحارب النحل , ليس لأن النحل اعتدى عليه , بل لأن نوره يفضح ظلمة الذباب , ولأن جهده يكشف عجزهم , يتسلل الذباب حيث لا يُطلب جهد , يتغذى على الفضلات , ويقتات من بقايا تعب الآخرين , بينما النحل يصنع عسله من رحيق الأيام , يعمل بصمت , ويترك أثره في الحقول , وفي قلوب العابرين , لكن الذباب لا يحتمل الفرق , يحاول طمس الفوارق , ليس بالارتقاء , بل بتسقيط من يعلوه , يشكك في العسل , ينشر عنه الشبهات : أنه مُرّ , أنه مضرّ , لعل أحدهم يتوقف عن الإعجاب به , وإن لم يُفلح , سرق تعب النحل ونسبه لنفسه , لا بحرفية , بل بحيلة , لا يعرف العمل , لكنه يتقن التملق , ويجيد الوقوف في الصورة , حيث يلمع العسل ولا يُذكر النحل.
كتب يحيى السماوي : (( في وطن بات مسلخا بشريا ما عُدنا نميّز فيهِ بين اللصّ والنّاطور بين البرتقالة والقنبلة , ولا بين عِمامَتي زياد بن أبيه وعمّار بن ياسر )) , فالمشهد السياسي في العراق الان لا تحركه المبادئ ولا البرامج بل صراع الطوائف والمصالح والنفوذ الخارجية , وتبدو النخب من القيادات السياسية , في معظمها , وكأنها تمثل نفسها لا مكوناتها الاجتماعية , بدليل أن غالبية من وصلوا إلى المناصب العليا أصبحوا من أصحاب الملايين , حتى لو كانوا بالأمس القريب شخصيات غير معروفة وليس لديهم تاريخ سياسي , وفي بلادٍ تلبس الوجع كوشاح , لا يُستغرب أن تضيع العدالة في زحمة المناهج الخائبة والمخاطبات , وأن يتحول الشرطي من حارسٍ للأمن إلى ذئبٍ يرتع في حقول الجراح , هنا , في عراق ما بعد الخراب , كل شيء قابل للكسر, حتى كرامة المواطن , ألا انه ومع كل هذا الظلام , لا بد أن يبقى في النفس شيء من الأمل , فحتى في عالم مقلوب كهذا , تظل الحقيقة قائمة في جوهرها , بانتظار من يعيد لها صوتها ومكانها , وربما كان الرهان الأكبر اليوم هو على وعي الشباب , وعلى يقظة الضمير, وعلى أولئك القادرين على التمسك بالقيم , لا لأنهم ينتظرون جزاءً , بل لأنهم يعرفون أن بقاء الإنسان نفسه مرهون بصدق القيم , لا بزيف الشعارات .
((هو العراق ياصدرا الوذ به كما يلوذ عصفور بذي زغب )) .