21 فبراير، 2025 6:49 م

مقامة مقاولي التفليش

مقامة مقاولي التفليش

منذ مدة أطلق أحد (سياسيي) ما بعد الاحتلال البارزين وصفاً تم تداوله بين كثير من العراقيين , كونه يعبر بدقة عن حال هذه الطبقة السياسية التي وصفها بمقاولي (التفليش) الذين لا يمكن أن يجيدوا البناء , كان أحد أهم أسباب أنتشار هذا الوصف أن نظام ما بعد الاحتلال قد أجاد الهدم لكنه لم يعرف البناء.

قاد هذا الواقع الى ما بتنا نشهده اليوم من دمار وتخلف في كل ميادين الحياة (اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً) , لقد وصلنا اليوم الى مرحلة التنفس من تحت الماء , وبتنا نغرق مع هذا النظام الهادم للحياة , أن أي نظام بما فيه النظام السياسي , يقوم على آليتين رئيستين تحددان مصيره هما البناء والهدم , فكلما زادت معدلات البناء على الهدم كلما نمى النظام وتطور , وكلما زادت عمليات الهدم على البناء كلما تآكل النظام وصولاً الى مرحلة الفناء , وتزداد أهمية البناء لدى الشعوب الشابة كالشعب العراقي حيث يهتمون بالمستقبل أكثر من الماضي , وبالبناء أكثر من الهدم .

أعتقد أن أصل المشكلة يكمن في أصل المهنة التي يجيدها هؤلاء السياسيين , فالمشكلة تكمن في (المقاول) وليس في نوع المقاولة سواء كانت بناء أم هدم , فمع كل الاحترام لها كمهنة , الا أن المقاولات في أساسها تبنى على رؤية ومخطط يضعه المهندس وينفذه المقاول , وهنا تحديداً تكمن مشكلتنا , فلم يكن ممن جاؤوا مع الاحتلال مهندسين لهم رؤية لما يريدونه للعراق , لقد كانت لديهم رؤية لما لا يريدونه في العراق , دون أتفاق على ما يريدونه , أتفقوا جميعاً مع الأمريكان على أسقاط النظام , لكنهم لم يتفقوا (برغم ما يقال عن وجود خطط آنذاك)على نوع العراق الذي يريدونه , فالعلمانيون منهم كانوا يريدون عراقاً يتفق مع ما يؤمنون به , والإسلامويون منهم كانوا يريدون عراقاً مختلفاً بل أن إسلاميو الشيعة والسنة اختلفوا على ما يريدونه للمستقبل ,في حين أن الكورد كانت لديهم مخططات أخرى للمستقبل , لقد كان واضحاً منذ تشكيل ما سمي بمجلس الحكم أنه لم يكن سوى خلطة عطار غير متجانسة أراد منها المحتل أن يبرر بها غزوه للعراق , ويبشر(إعلامياً لا فعلياً) بديموقراطية السلاح المنتشر والفساد المستعر , كانوا متفقين مع الاحتلال على أسقاط النظام لكنهم لم يكونوا متفقين لا بينهم ولا مع المحتل عما يريدونه للمستقبل.

حينما أصدرت المحكمة الاتحادية تفسيرها الشهير باعتبار الأغلبية البرلمانية هي التي تتشكل بعد الانتخابات وليس قبلها فماذا يعني ذلك؟ أنه ببساطة يعني أن الأغلبية تتشكل بعقلية المقاول لا المهندس , فالمهندس لديه رؤية يريد تحقيقها لذا فحين يقرر الدخول للانتخاب وبناء ائتلاف فأنه يضع مخططاً لما يريد أن يبنيه قبل الانتخاب , كي يضمن عند الفوز تحقيقه , أما المقاول فليس لديه خطة أو رؤية للمستقبل بل تحقيق ربح آني وسريع من خلال (التوفيق بين الرؤوس) , لذا فليست لديه مشكلة متى يتحقق الائتلاف الأكبر حتى وأن جرى بعد الانتخابات , لأن من يأتلف بعد الانتخاب لتشكيل الحكومة أنما ائتلف (توفيقياً) لتقاسم وتغانم السلطة وليس لتحقيق رؤية قرر عليها قبل الانتخابات , فلو كانت لدى المؤتلفين(بعد) الانتخابات رؤية أو منهج بناء موحد فلماذا لم يتفقوا قبل الأنتخابات.

وتأتي أزمة الانسداد السياسي الحالية لتثبت مرة أخرى أن سياسيينا لا يعدون كونهم مقاولين وليسوا مهندسين , لاحظوا أبتداءً عقلية (التفليش) في مبدأ الثلث المعطل الذي دارت كل رؤيته وسرديته حول حق المكون (وليس شعب العراق) , ثم حين نجحوا في(هدم) تحالف منافسيهم وهو ما كانوا متفقين عليه , وجدوا أنفسهم في مشكلة كيفية الاتفاق على ما يريدونه للمستقبل.

ومرة أخرى وقعوا في مشكلة الاتفاق على ما يرفضون والاختلاف على ما يريدون , أنهم أتفقوا على من يرفضونه في الحكم لكنهم غير قادرين على الاتفاق على من وماذا يريدون للحكم , كل تكتيكاتهم (لأن المقاول ليست لديه استراتيجيات) تقوم على بوس عمك بوس خالك , ورضّي هذا ورضّي ذاك كي تمشي السفينة , لكن الى أين؟ هذا ليس مهماً عند المقاول فما يهمه أن تمضي الصفقة كي يأخذ عمولته , ولأنهم ليسوا مهندسين فهم غير قادرين على رؤية ما يمكن أن يراه أي (خلفة) مبتدأ , فالبناء الأعوج لا بد أن ينهدم  والسفينة المبنية خطئاً لا بد أن تغرق عند أول عاصفة.

قال السيد محمود المشهداني في أحدى تصريحاته : (( إننا جئنا إلى السلطة بعقلية مقاولي التفليش , تلك العقلية التي تركز على الهدم لا البناء , على التحريض لا الحوار , وعلى الكراهية لا المصالحة , في هذا السياق , و منذ أن انتقلنا من المعارضة إلى السلطة , تبدو مشكلة جوهرية واضحة , هي ان عقلية المعارضة لم تغادرنا ,لم نستطع بناء مؤسسات دولة قوية ومتينة لأننا افتقرنا إلى فهم آليات بناء الدولة , وظللنا عالقين في ذهنية المعارضة التي تغذيها ثقافة العداء والتصارع )) .

تتبنى الجماهير في مجتمعاتنا مفهوماً مغلوطاً عن النظام , فالكثيرون يعتقدون أن النظام هو مقر حكومي أو قصر رئاسي , وأن تغييره يعني فقط السيطرة على هذه الأماكن , وهذه الرؤية السطحية تجاهلت أن النظام ليس في الجدران التي يمكن هدمها , ولا في المؤسسات التي يمكن الاستيلاء عليها , بل هو متجذر في قيمنا , أفكارنا , وعلاقاتنا الاجتماعية , والنظام السياسي ليس كياناً مادياً فقط , بل هو نتاج بيئة اجتماعية تحمل في طياتها الثقافة الأبوية , الطاعة العمياء , النمطية الفكرية , ورفض التنوع والاختلاف , فالتغيير الحقيقي للنظام يبدأ من تغيير هذه القيم , لا من الاطاحة بشخصيات او حكومات .

ما زال الجماعة أسرى لعقلية المعارضة , حتى وهم في مواقع السلطة , هذا يظهر في التشهير بالخصوم , الغطرسة الفارغة , وبدلًا من تجاوز الماضي والمضي قدماً نحو بناء دولة قائمة على العدالة والشفافية , يمارسون ثقافة التشويه والإقصاء , ويعمقون الأزمات بدلًا من حلها  , وبعد أن احتلت أمريكا العراق وسلمتهم السلطة , تعاملت معهم كما يُعامل الطفل الذي تُنتزع منه لعبته الثمينة وتُستبدل بقطعة من الشوكولاتة , فيفرح بالحلوى وينسى قيمة لعبته , كما أكده المشهداني في لقاء تلفزيوني : (( هكذا انشغلنا بالفساد , والاستحواذ على المناصب , والنهب , وأهملنا الوطن الذي هو أعز ما نملك , إذا قررت أمريكا والغرب تحقيق الاستقرار في العراق , فإنهم سيبحثون عن بديل آخر لإدارة المشهد , وربما لا يكون هذا اليوم بعيدا)).

أحدث المقالات

أحدث المقالات