تثير أغاني رياض أحمد انتباهي , فيها شيء من الفرح والغبطة , ممزوجة بنبرة حزن خفية , فهنالك ( لوعة) مدفونة بين ثنايا الفرح , جميلة هذه ألأغاني , رشيقة , مفرحة لوعاتها , تقترب من حنايا الروح تارة , وتبتعد في أعماق الوجدان اخرى , وتفرح تارة , لتحزن تارة اخرى , وتبقى مكتنزة بهواجس وهموم شعرائها , ولكنها دوما تدور فتمس شغاف القلب لتسعد الجميع , ضاربة في الروح إحساسا ودهشة , لكني رأيت أن رياض احمد قد أجاد الغناء بسبب احساسه , والعُرب التي أضافها نابعة من داخله , فقد تفرد ببريق صوته وطريقة أدائه لنبرة اللحن , فكانت أغانيه لها اثرها في ذات المتلقي لقربها من أحاسيسهم .
مرّة ومرّة , ليستا مجرد كلمتين بل حكاية كاملة تختزل في طياتها صراعاً بين الحب والحرب , النور والظلام , كلمتان صنعتا ملحمة موسيقية وشعرية فريدة , متأرجحتان بين مد وجزر , اختزلتا الحالة الشعورية للشاعر البصري طاهر سلمان الذي أفصح عن اسطورة انبثقت من اللاوعي , وتتحدث عن حب ممنوع في ظل أديان متقابلة , ولم يكن هذا البوح ليبلغ ذروته , لولا الموسيقى التي صاغها الملحن الكبير جعفر الخفاف , إذ دفع المستمع إلى حالة من ( اليوفوريا ) تلك اللحظة النادرة التي ترى فيها الصوت وتستشعره بصرياً , وتنقل بخياله من كوبليه إلى آخر , وفي كل انتقال خاض صراعاً داخلياً حتى بدأ الكوبليه الثاني ( من تزعل توحشني الدنيا…) , هنا تشعر ان هذه الوصلة الموسيقية ولدت من رحم اغنية اخرى , اغنية جديدة تماماً , وهذا بحد ذاته شهادة على عبقرية عنقاء الفيحاء و طائر الجنوب رياض احمد , فقد صهر الأغنية بصوته حتى بلغت حدود البكاء مضيفاً إليها روحاً لا يضاهيه فيها أحد.
عندما يغني رياض أحمد , تسمع صوتاً جميلاً يحمل نكهة البيئة الجنوبية للعراق , ويُعرف بلقب (( طائر الجنوب )) , يستدعي الأغنية في لحظة عفوية ويعيدها ولادةً جديدة بصوتٍ يمشي على خيطٍ من موسيقى تراجيدية , ويترك في الروح رجفة بتوزيع موسيقي سلس يضفي جمالاً عنوانه البساطة , ترى ما السر الذي يخفيه الحنين تحت جنحه في هذا الاغنية وألزعِلَ شاهدا على تقلبات طّقْسُ الحب ؟ فلا حقول فِرْدَوْسيّة , مادامت الأيام تشبهُ غيبوبة وميتة سريريا , ولا أحد سوى العشاق من يرون ِالجزء المخفي من السماِء , حتى وأن أغلق باب القلبِ بقسوةِ حبيب , فمن يغفر؟ وكل مرة يبدو الزعل ٍإيذانا بالرحيلِ النهائي مره ومره .
الورد المعترش على الشباك يتمايل مع صوته ويمد ذراعيه على اتساع ضوء القمر كأنهما جناحان يريدان الطيران به وظنا (( ان الزعل يركب دراجته الهوائية بانتظارِ تبديل اضويه المرور, وعندما هتفت بضعة نوارس صار صوتك مطرا )) يسقط على غابة ِالروح لغاية الفجر, وبنبرة اعْتِذار من بصريِ ليس على مايرام , يحمل ُملامح قَمَرا (( خجولا )) تحجبه غيوما عابسات , (( من تزعل توحشني الدنيا واتصور غيرت اضنونك , من ترضى يظل شوق البيه يذوبني بنظرات اعيونك )) ,فيا ايها الجنوبي مثل كل الجنوبيين الذين تاهوا في أَزِقَّة المدن تبدو عديم الحيلة ومكتوف الأيدي وايقنت ان الحياة في المدينة عديمة اللون ولا وجه ثابت لها حتى في المرآةِ (( حبيتك حبيتك وانه أدري دربي ويه أدروبك ما يتلاكه , حبيتك وانه أدري بكلبي مايكدر يكتم أشواكه )) .
كل هذا الزعل المتكرر وتغفر , وبحرك مقفر من السفن , تركض وقلقك غير قادر على ترويضه ؟ مَا الْعَمَلُ و الْحُبِّ قدر مَكْتُوبٌ منذُ الأَزَلُ ؟ (( بس حبك قدري المكتوب تدري شكد حملني ذنوب , كم مره تبعد واغفرلك , متكلي اليغفر كم مره كم مره ؟ طبعك صاير صاير مره ومره )) ,بعد رحيلك يا رياض أحتل البلاد المغول يعاونهم لصوص و سفلة وقطاع طرق ورجال عصابات و بغايا , قالوا انهم حاملين اوامر الكهنوت على الرماح , وبمراسيم جديدة البسوا الوقت عباءة سوداء , وقالوا أن الغِناء من اعمالِ السحرة والشياطين , فيا ايها الوطن لماذا (( طبعك صاير صاير مره ومره ؟ )) .