عندما سئل درويش هل تحب بيروت , قال : لم انتبه , فنادرا ما تحتاج الى التأكيد من أنك في بيروت , لأنك موجود فيها بلا دليل , وهي موجودة فيك بلا برهان , صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت , صوت الرصاص أو صراخ الشعارات على الجدران ,أنا لا أعرف بيروت , ولا أعرف إن كنت أحبها أم لا أحبها ولعلّ الجميع أدركوا أن لا بيروت في بيروت , فهذه السيدة الجالسة على حجر صورة لزهر عباد الشمس تتبع ما ليس لها , وتجر عشاقها وأعداءها على السواء الى دورة خداع البصر, فتكون لهم أو عليهم ولا تكون لهم أو عليهم :
((أنا لا أحبك
غمسّي بدمي زهورك وانثريها
حول طائرة تطارد عاشقين
وأنا أحبك
غمسي بدمي زهورك وانثريها
حول طائرة تطاردني وتسمع ما يقول البحر لي
بيروت لا تعطي لتأخذ
أنت بيروت التي تعطي لتعطي ثم تسأم من ذراعيها)) .
لبنان , أنت الأخيلة الفتيّة التي تنبض بالشباب , بوركتَ يا بلد العطاء , بوركتَ مزارًا يَؤمّهُ كلُّ مُحبّ للجمال , بوركتَ كرسيّ مجدٍ وعرش ألوهة , بوركتَ بيتًا للفصحاء , بوركتَ يا لبنان , حين كنت أجوب شوارع بيروت العتيقة بمفردي , لم أكن أشعر بأنني أمشي وحيدا , وإنما كان ينتابني شعور بأن كل من حولي هم مقربون مني , أصدقاء أو أهل أو شيء من هذا القبيل , وأن كل الشوارع والشرفات والبيوت كانت منزلا وموطنا لي , وتؤهل بي على الدوام وكأنها بمثابة تعويض عن عمر بارد مر .
(( قمر على بعلبك
قمر على بيروت
يا حلو, من صبّك
فرساً من الياقوت
يا ليت لي قلبك
لأموت حين تموت )) .
فوق جبال لبنان الخضراء , ترعرعت عبقرية الحركة القوية والناعمة , في البر والبحر, أعطت للإنسانية ما لم تكن تعرفه , طالتها ضربات الزمن الثقيلة , لكن خريطتها الطبيعية رسمت طبائع مَن نبتوا على أرضها , جابوا أرض الله شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً , في البلاد العربية كان اللبناني دقة زندٍ تشعل أضواء العقول ونسمة إبداع , لبنان يا شجرة أرز, نمت فوق جبال الزمان , أصلها مكين في أعماق طبقات التكوين التاريخي الإنساني , أوراقها كُتبت عليها سطور التمثيل الضوئي لعبقرية الحركة والإبداع , سبحوا مبكراً بمجاديف الحضارة على سطح ماء البحر الأبيض المتوسط , رست مراكبهم في كل الشواطئ , حيث أسسوا حضارة امتلكت قوة مالية وعسكرية , قرطاجنة مدَّت جسور الوصل بين البحر والبر.
((بيروت تفاحة
والقلب لا يضحك
وحصارنا واحة
في عالم يهلك)) .
أما بالنسبة لي فقد كانت بيروت أسطورتي التي نسجتها بنفسي , حياتي التي كتبت أقدارها بحروف من كتب وشوارع ونسمات بحرية , أو أصوات أناس وثقافات وزهور تصول وتجول في التدفق الغزير للذاكرة , لقد عانقني البحر هناك , وربت على كتفي ومنحتني الشوارع دفء شمسها الناعمة , ولحنها البهيج المزركش كما لو أنه لحن قادم من زمن مابعد حداثي لم يولد بعد , شيء يجعلك تعيش ربما في المستقبل , أو في زمن يستوعبك ويحتويك وحدك , جاعلا منك أنت وحدك أسطورته وحكايته الفريدة .
(( وأرحل عن شوارعها
وأقول: ناري لا تموت
على البنايات الحمام
على بقاياها السلام
شكرا لبيروت الضباب
شكرا لبيروت الخراب )) .
فاض العطاء اللبناني إبداعاً في الأدب والصحافة والمسرح والموسيقى والغناء , وغمر جداول البلاد العربية , عبر العقود الممتدة , كانت لبنان الحقل الذي تطير له بذور الإبداع الفارة من حبال الخنق أو الاختناق في أوطانها , نسيم الحرية كان هو الفصول الأربعة , وفي مساحته الصغيرة , اتسعت رحاب الأفكار , في أرضه يلتقي المختصمون العرب , يكتبون ويقولون , وفي لياليه يتحلقون حول موائد ما لذ من الطعام , وما راق من الشراب , تتحول لغة الخصام إلى قفشات ونكات وضحكات , وتصير كلمات السياسيين والصحافيين والمثقفين المؤدلجة , أنغام سمر تحيي العجائز, وتنعش الشباب في أرض لبنان , خندق الحرية الفسيح .
((بيروت خيمتنا الوحيدة
بيروت نجمتنا الوحيدة )) .
وكيف يخبو ضوءها ؟ وهي التي تحضن كل أضواء الأزمنة , وتتحلى بالقدامة والحداثة وما بعد الحداثة , في شوارعها نفحة اليوتوبيا و أحيانا شراسة الواقعية الشديدة وسحر الحياة المبتدعة , لكنها دافئة على الدوام ولا تعرف التخلي أو التوحش وإن أرادت أن تعتد يوما بنفسها و تقرر أن تكون أنانية فلا تفعل ذلك دون أن توزع جمالها وسحرها على كل القلوب , لتبث فيهم من جديد الرغبة في الاستمرار , وضحكة خفية لا تفهمها إلا لغة القلب , الذي التأمت جروحه على يديها , وأصابعها الخفية التي تكتب بكل اللغات وتمتطي أجنحة كل العوالم .
(( يا جارة الوادي طربتُ وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
مثلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى والذكريات صدى السنين الحاكي
ضحكت إليَّ وجوهها وعيونها ووجدتُ في أنفاسها ريَّاكِ
لم أدرِ ما طيب العناقِ على الهوى حتى ترفَّق ساعدي فطواكِ)) .
كيف تحولت ظلال شجرة الأرز إلى دغل مظلم , وتحولت كلماته المترعة بالحب والحياة , وأنغامه الآسرة التي تروي الروح بموسيقى التعايش والعشق إلى معزوفات رصاص , وصارت اللؤلؤة زحلة , تسمع وترى حفلات جنون القتل الفردي والجماعي؟ اندفع طوفان الطين الأحمر الآيديولوجي , وران على أرض الجمال لبنان , مرة بمدافع حشوها شعارات قومية , وأخرى بشعارات دينية , غرق مستطيل الحرية والإبداع والفرح في مستنقع الموت والهروب واليأس , البحر الأبيض المتوسط الذي حمل إلى الدنيا نتح شجرة الأرز, اختنقت نسائمه , وهو يرى ما حلَّ بمرافئ ما أبدع زمانه , لبنان كانت جارة وادي زماننا , وامتداد رحاب عقولنا وقلوبنا , صارت اليوم محفلاً لحروب كتائب جهلنا.