مقامة في مسار التاريخ ومآلاته

مقامة في مسار التاريخ ومآلاته

يقول المندلاوي الجميل تحت عنوان (( ختامها مسك )) أنه بعد  قراءة 489 صفحة من مذكرات مكرم الطالباني , فهو يختتمها بحكمة بالغة تقول :   (( يجب أن لا نبقي انفسنا فوق التاريخ , فان التاريخ لا يرحمنا , فلم يرحم فعلا أولئك الذين لم يتعلموا منه,  ومن لايرحم شعبه , لا يرحمه التاريخ )) , ويتمنى لو استفاد منها ولاة الامر في الشرق , مايقصده الطالباني ان التاريخ لم يصنع لمجرد استذكار الماضي واستعراض الأحداث والوقائع التي تخللت محطات تحوله وسيرورات تطوره , وإنما للاستفادة من دروسه واستخلاص العبر من عضاته  , التي من دون استخلاص مضامينها واستلهام دلالاتها , سيبقى الإنسان / المجتمع يكرر أخطاء مواقفه ويقع في محظورات أفعاله , ولعل مظاهر التخلف الاجتماعي والعنف السياسي والتطرف الإيديولوجي الضاربة أطنابها في بلدان العالم الثالث , قمينة بتقديم البراهين الدامغة على تبعات ارتكاب مثل تلك الأخطاء والمحظورات .

كان إبن خلدون قد كتب :  (( مَنْ لم يقرأ التاريخ فقد عاش عصره فقط , و مَنْ قرأ التاريخ فقط عاش الدهر كله )) , و التأريخ كالعجينة يصنع منها الأقوياء ما يرغبون , لصنع الأساطير التي تخدم مصالحهم , ويوظفون غيرهم لتمجيد أفعالهم وتسطير مآثرهم , وحجب مثالبهم , ويغدقون عليهم فيكتبون , فكيف يصح في الأفهام تصديق ما يسطرون ؟ , مشكلة التأريخ أن صناعه لا يكتبونه , ومن يكتبه يمزج بين أهوائه وتصوراته , فيرسم صورة قد تقترب أو تبتعد عن الحدث , فيتحول ما دونه إلى خبر بحاجة إلى تمحيص وتدقيق , تجد أن الأقوياء يتأسدون , وعلى الضعفاء يتسيدون , ولفرائسهم يمتهنون ويعذبون , وإنهم المنتصرون , وبأمجادهم يتفاخرون , وحولهم الرعية صاغرون , وفي حرمانهم وخنوعهم يتمرغون , وهكذا فأن الكثير من المدونات مكتوبة بمداد الكراسي , ويتضح ذلك بإخراجها أصحابها من بشريتهم  , وتضفي عليهم ما لا يتوافق وبديهيات الطبيعة والسلوك , وكما قال الرصافي : (( إذا شط جيل خط من جاء بعده , أكاذيب عنه بالثناء تزوق , فما كتب التأريخ في كل ما روت , لقرائها إلا حديث ملفق , نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا , فكيف بأمر الغابرين نصدق ؟ )) .

استثمار آلام الأخرين ليس جديدًا , الضحية تموت مرتين , مرة بالرصاص أو العجز أو الخوف أو الحسرة أو الجوع أو القهر , ومرة أخرى بسبب المتاجرة بدمها , هذا هو التاريخ , ساخرومسخرة مرة , ومأساة مرة أخرى , يسخر من ضحاياه الضعفاء مرة , ويمنح العقلانية الكاذبة للأخر مرة أخرى , وسنبقى ندور حول أنفسنا بعبثيه مؤلمة لا أمل في الخروج منها , فلم يُصنع ذاك التاريخ الذي تتطابق فيها , المأساة والسخرية , ويحولهما إلى وحدة واحدة , تمنح الطاقة للأخرين , المؤلم في مجتمعاتنا أن التأريخ يقودنا , وهو حمّال أوجه ورؤى وتصورات وأضاليل , تنطلي على الناس , ويتخذونها صراطا لتمرير الويلات والإستثمار في التداعيات , وبسبب السقوط في حبائل التأريخ المفتعل والمصمم على مقاسات الرغبات والنفوس الأمّارة بالسوء , تعيش الأجيال في مثرمة الحياة , وتتحول أيامها إلى مآسي ونكبات.

معظم رجال الدين (( السنة والشيعة )) على حد سواء لا يريدون لنا أن ننظر من خلال ما نراها في بطون أمهات كتب التاريخ , ولكن من خلال ما يرونه ويصورونه لنا , (( قطع رأس الحسين وأودع عند عبيد الله بن زياد , وقطع رأس عبيد الله وأودع عند المختار الثقفي , وقطع رأس الثقفي وأودع عند مصعب بن زبير, وقطع رأس مصعب وأودع عند عبد الملك بن مروان , وما زالت الرؤوس تقطع وترمى على الطرقات والقتلة مجهولون,  والتاريخ الهمجي يكرر حماقاته ونحن ضحاياه المكررون )) , يذكر ان ناصر الدين شاه ( 1831 ـ 1896م) لما زار ضريح الحسين عليه السلام قام بنزع تاجه امام الضريح احتراما , فانبرى خطيب ما قائلا : (( ان الحسين في اشد حالاته يوم عاشوراء نادى هل من ناصر ينصرني ؟ ثم قال اتى ناصرك وهو واقف في حضرتك لينصرك )) , فضج الناس بالبكاء , طبعا عبارة هل من ناصر ينصرني فيها بعض الشكوك انه عليه السلام لم يقلها .

كتب التأريخ يختلط فيها الغث والسمين , والحابل بالنابل , والكذب والصدق , والإختلاق والحقيقة , ومعظمها تعبيرات عن عن آراء الكتاب , وفقا لمدى إقترابهم وبعدهم عن الكرسي المتحكم بمصير البلاد والعباد , فلا توجد مدونات تأريخية موضوعية , وخالية من عسل السلطة وضرورة التكسب بالمكتوب , فما خطته الأقلام كان من أجل الإرتزاق , وهذه مهنة سائدة وتدر مالا على أصحابها , فكانوا يهدون كتبهم للذين يتوقعون منهم عطاءُ مجزيا , ولابد من القول أن الجاحظ أهدى كتاب الحيوان لوزير المتوكل عبد الملك الزيات , وباقي كتبه لغيره , ونال على ذلك مالا وفيرا , وعندما نقرأ للمؤرخين المعروفين كالطبري , اليعقوبي , المسعودي , البلاذري وإبن كثير , وغيرهم , نتحير أمام ما دونوه عن حدث واحد , وهم ما شاهدوه أو عاشوه , إنهم نقلوا عن فلان وفلان وبعد قرون , وهم في العصر العباسي , ويكتبون عن أحداث حصلت قبل أكثر من قرن , فتجد قصصا متضاربة لا يقبلها العقل المعاصر , لكنها ترسخت بالتكرار , على أنها الصدق بعينه ,
فلا بد من القراءة المتعقلة للتأريخ , وعدم فصل ما مكتوب عن زمانه ومكانه , ولا يجوز القول بأن المدون مقدس , فهو من نضح عقول عصره وظروفه , وليس مخلدا أو مطلقا , كما يجري العمل على إيهام وخداع الأجيال , والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها .

الكتب كثيرة بمجلداتها ومدوناتها وموسوعاتها , وقلة منها مكتوبة في زمن الحدث , ومعظمها وضعت على الورق بعد عقود أو قرون , وهي منقولة عن أقوال تداولتها الأجيال , وعندما نتأملها بمنظار زمانها ومكانها , وما في مجتمعات غيرها , تتبين عوراتها , فالسابقون ليسوا أذكى من اللاحقين , وذلك يعني أن رؤية ما مضى بعيون العصر ستكشف ما لا يخطر على بال من الهفوات والعبارات المنافية لطبيعة ألأشياء , وكأنها أشبه بالتهاويل المتخيلة لإخراج الشخص المعني من بشريته , وكلما ازدادت المسافة الزمنية , اكتسب الهدف توصيفات لا يعرفها , وسيبقى التأريخ يؤرقنا ويستنزف وقتنا , ويبدد تطلعاتنا , فنتناسى الحاضر والمستقبل , ونمعن بالغطس في الماضيات الغابرات القاهرات , ونستحضر منها السيئات , ونتجاهل المعطيات الإيجابية العلياء , فهل أن ما تحت الثرى يتسيّد على ما فوقه ؟ ذلك ماتمناه الطالباني , و (( الحياة بلا فائدة موت مسبق )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات