18 أغسطس، 2025 10:34 ص

مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز

مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز

يُقال إن الشعر يكمن في التفاصيل , وكثيرًا ما كان الشعراء يصفون جمال محبوباتهم بتركيز على فروق دقيقة لا يراها إلا العاشق المتأمل , ولعل أبا فراس الحمداني كان يلمح إلى هذا المعنى حين قال : (( وَبِـعَضِّ النَّـوَى أَسِيـراً لِيَـرَى أَيُّها أَحْـلَى وَأَيُّها أَمَرُّ)) , هنا يصف كيف أن الفرق بين الشيء الحلو والشيء المر هو فارق دقيق يكاد لا يُرى , إلا أن تذوقه هو الذي يكشف الفارق الجوهري بينهما, كان بعض الشعراء يربطون بين التفاصيل الصغيرة والشخصية , فالفروق البسيطة في السلوك أو المظهر هي التي تكشف عن جوهر الإنسان , يقول الشاعر: (( وَيَخْتَـلِفُ النَّاسُ فـي خُلُقٍ وَشِيمَةٍ وَفِي بَعْضِ التَّشَابُهِ بَيْنَهُمْ فُرُقُ )) , يشير هذا البيت إلى أن الفروقات في الأخلاق والصفات , رغم التشابه الظاهري بين الناس, هي التي تحدد شخصياتهم.

لعل هذه المقدمة تنطبق بقوة على الفروقات البسيطة التي نميل غالبًا إلى إهمالها , تلك الفروقات , وإن بدت ضئيلة , هي التي تصنع الفارق الجوهري وتحدد الخصوصية والتميز, فكما يُظهر التشابه الجيني بين الكائنات , فإن القليل من الجينات المتباينة يمكن أن يخلق عالماً من الفروق , فالإنسان يتشارك مع ذبابة الفاكهة في 60% من جيناته , ومع الفئران في 85% , لكن الفارق الأكبر والأكثر إثارة للدهشة يأتي من الشمبانزي , حيث يتقاسم الإنسان معه ما يقارب 98.8% من الجينات, هذا الفارق الضئيل , وهو الـ 1.2% المتبقية , هو الذي يمنح الإنسان خصائصه الفريدة: قدرته على التفكير المجرد , وابتكار الأدوات المعقدة , وإنشاء الحضارات, هذا الفارق البسيط , على الرغم من ضآلته , هو جوهر ما يميزنا كبشر, وإهماله يعني إهمال ما يجعلنا (( نحن )) .

لا يقتصر هذا المنطق على الفروقات الجينية فحسب , بل يمتد ليشمل كل جوانب حياتنا , إن التميُّز الحقيقي لا يأتي من تغييرات جذرية وشاسعة , بل من تعديلات دقيقة قد تبدو تافهة للوهلة الأولى , خذ على سبيل المثال مقطوعة موسيقية لموزارت, عندما نقارنها بأخرى لموسيقار محترف لكنه غير مشهور, قد لا نجد فروقًا ضخمة في النوتات أو الإيقاع , الفارق قد يكون مجرد كسر من الثانية في حركة أو لمسة فنية دقيقة , لكن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي جعلت موزارت خالدًا بينما ظل الآخر في دائرة (( الجيد )) , وفي الحياة الأكاديمية , يستطيع معظم الطلاب الحصول على الخمسين في المائة الأولى من الدرجات , لكن المهمة أصعب في الثلاثين التالية , ثم أصعب في الخمس عشرة التالية , ومع اقتراب القمة , تصير المنافسة ضارية على كسور الدرجات , وفي مضمار العدو الأولمبي , يفوز الأبطال بكسور من الثانية لا يدركها العقل البشري دون أداة رقمية .

لو صممنا نظاماً يعامل من حصل على 98 في المائة كمن حصل على الدرجة الكاملة , ورأينا أن الفارق لا يستحق , فسنفقد العقول الأكاديمية الفذة , هذه التدخلات تشبه أن تنزع من غوريلا جيناتها التي تميزها عن الإنسان , ثم تتركها في قسوة الغابة , أو أن تنزع من الإنسان قدرته على الكلام وصناعة الأساطير, ثم تدعوه ليلقي كلمة في ((تيك توك )) , تلك هندسة جينية ضررها واضح للعين , والهندسة الاجتماعية التي تلغي الفروق بين الأفراد بعبارة (( لا فرق )) تشبهها في الضرر, لكنها متوارية. نحن لا نتحدث هنا عن الفروق الجينية , بل عن منطق التمايز , التميّز يعتمد غالباً على فروق ضئيلة إلى درجة تُغري بتجاهلها , رغم أنها الفارق الذي يُحدث الفارق فلا تستهينوا بجملة (( لا فرق )) , فهي أول فأس في هدم التميّز .

من ناحية اخرى لا تُلغى الفروق غالباً بقرار مباشر, بل بطريقة عكسية : تخفيف شروط المنافسة إلى حد يفقد معها التصنيف معناه , ما دمت تقرأ وتكتب بلغة منضبطة , فأنت صحافي , ما دمت قادراً على قيادة سيارة فلماذا لا تشارك في سباق محترفين؟ ما دمت مهندساً , فصمّم لنا دار الأوبرا , في الشركات الخاصة , لن تسمح لنفسك بهذا , لأنك ستدفع الثمن , لكي تربح , يجب أن تكون جواهرجياً : يقدّر الذهب , ويزن الفروق بالغرام والميليغرام , و في عالم كرة القدم , تتنافس الأندية على المواهب , وتقيّم بدقة الفروق بين ميسي , ورونالدو , وراشفورد , ونونيز , تُعيد الحسابات وتراجع نفسها , لأن الفروق الصغيرة ضخمة التباين في الربح أو الخسارة , بهذه العقلية يتلاقى الجميع في الممر نفسه: من المواهب , والمديرين , والمستثمرين , والنتائج , وكشوف الحسابات , والجماهيرية.

بالأضافة لذلك لا تظنوا أن التميز يدفن استهدافاً وعمداً , بل يكون جهلاً بطبيعته , أحياناً لأنه فوق مستوى الإدراك : فالعين لا ترى الحاجب , والخيال الضيق لا يستوعب الواسع , وأحياناً لأن البعض يعتقد أن السنتيمتر هو السنتيمتر, سواء كان أسفل الزانة أو أعلاها ,وستختل المعادلة بمجرد أن يختفي العقاب المالي على القرارات السيئة, حين تتحكم في ما لا تملكه , كما في القطاع العام , ما الذي يمنعك من تفضيل سعيد الجيد على أسعد المتفوّق؟ أو من مساواة الـ98 في المائة بالدرجة الكاملة؟ في الواقع ربما تكسب أكثر في رد الجميل , وليس صدفة أن مجتمعات التملّك الحر والاقتصاد الرأسمالي أكثر غزارة في المواهب من غيرها , وليس صدفة أنه حين يتحكم الموظف البيروقراطي في الفن , تندر المواهب.

(( لا فرق )) تكلف المجتمعات سنوات ضائعة , وتحرمها من أعزّ ما فيها : مواهبها , (( لا فرق )) آلة شفط المواهب من على المسرح وهرسها أو الإلقاء بها في مقاعد المتفرجين المتحسرين , (( لا فرق )) باب إلى خطوات قصيرة لخنق المستقبل , إن هذه الأمثلة تذكرنا بأن النجاح والتميز يكمنان غالبًا في الاهتمام بما هو ضئيل وليس فقط بما هو ضخم. سواء كان الأمر يتعلق بفارق جيني يحدد هوية كائن حي , أو بلمسة فنية تُخلد عملاً إبداعيًا , فإن هذه الفروقات الصغيرة هي التي تصنع الفارق الأكبر, إن تجاهلها هو تجاهل لجوهر التميز, فلنتعلم أن ننظر بعمق , وأن نقدر الفروقات مهما بدت قليلة , لأنها غالبًا ما تكون الأساس الذي يقوم عليه كل شيء عظيم.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات