19 ديسمبر، 2024 11:01 م

مقامة فيروز و بيروت

مقامة فيروز و بيروت

يمر المندلاوي الجميل بوعكة بسبب ألأحداث في لبنان ونشر على صفحته : (( رسالة صادقة : كما قالت فيروز : لبيروت من قلبي سلام لبيروت وقبل للبحر والبيوت )) , والمندلاوي ينطلق من تاريخ واخلاق العرب , إذا حزن جار لك فعليك ان تشاركه حزنه الحميم , حتى وان كانت بينك وبينه عداوة في الصميم  .

يقول محمود درويش : (( فيروز ظاهرة طبيعية , لم أعرف صوتا كصوتها , وهو صوت أكبر من ذاكرتنا , وفيروز ليست فقط سفيرة لبنان إلى النجوم , لكنها رمز لمجموعات ترفض أن تموت , ولن تموت )) , ويقول نزار قباني : (( صوت فيروز هو أجمل ما سمعت في حياتي , كما أنه نسيج وحده في الشرق والغرب , وإنها رسالة حب من كوكب آخر, غرتنا بالنشوة والوجود , و كل الأسماء والتعابير تبقى عاجزة عن وصفها لأنها وحدها مصدر الطيبة )) , وفي عصرنا المظلم يشق لنا صوتها ممر الضوء , ويعيدنا أنقياء , يجعلنا نسترد النقاء لنكتشف, بقوة النقاء وحدها, كل ما يجمعنا بالينابيع الأصلية, كل ما يربطنا بالخير, كل ما يشدنا بعضاً إلى بعض , ولا يمكن تفسير صوتها لأنه حقيقي , حقيقي حتى الخيال , إننا نقول عنه : (غير معقول, فوق الوصف) , لأنه حقيقي , أنه تارة يبدو وديعاً ناعماً كفراشة , وطوراً آمراً كملكة وعميقاً كبرق , لأنه حقيقي , إنه آسر ومتجدد لأنه حقيقي , وهو حقيقي لأنه نعمة , وأي شيء حقيقي غير النعمة.

عام 1981 كنت عائدا من لاغوس عاصمة نايجيريا القديمة الى مقر عملي في مابوتو عاصمة موزمبيق , كان أقصر خط جوي ( كونكشن ) هو المار عبر باريس  والبقاء يومين فيها , أستطاع الزملاء في سفارتنا بصعوبة أن يحصلوا لي على بطاقة لحضور حفل فيروز في مسرح كازينو لبنان الكائن في شارع الشانزلزيه الشهير , كانت غالبية الحضور من الأخوان في الجالية اللبنانية وعوائلهم , حالما بدأت السيدة فيروز بالغناء  دخل الحضور في جو من البكاء والعويل , كانت الحرب الأهلية اللبنانية لاتزال مشتعلة الأوار , وكانت فيروز تشعل في قلوبهم الحنين وتستخرج من صدورهم الأنين ليتصاعد الى بكاء حزين لا مجال لكفكفة دموعه , وأستمروا على هذا المنوال مع كل أغنية جديدة او قفل أغنية يستعيدونه معها بالنواح , وكان لابد ان يسحبوا نشيج أرواحنا ايضا حيث تعاطفنا لا أراديا معهم , وبكينا , وكانت ليلة ,  كان العراق حينها يخوض حربا ولكنه كان موحدا قويا ولم يمر بمخيلتنا أننا  سنبكيه بعد 22 عاما كما بكى اللبنانيون وطنهم.

لا أدري هل نشيع بيروت , ام المقاومة ؟ أم نشيًع الأمة ؟ ففي بيروت رمَّد العدو الورود وردةً وردة , وشرَّد العائلات عائلةً عائلة , وقتل بعض أفرادها فرداً فرداً , وكل ذلك كان على عجلةٍ من أمره , لم يترك وقتاً للجنازات , والصحف خالية من إعلان الوفيات , لأن الموت مباحٌ دون إذن بالتشييع , كشفت لنا الحرب الحالية إلى أي مدىً نجهلُ لبنان الذي كنا نظن اننا نعرفه في جهاته الأربع , أنا على سبيل المثال , زرته مرات عديدة بحكم عملي , ولكني لا أعرف أي مناطق نعني بالإشارة إلى شمال شرقي البلاد , ومثل الشمال , كذلك الجنوب , والغرب والشرق , فإنني أجهل مدنها وقراها جميعاً , بالرغم من أنني زرت بيوت العديد من الأصدقاء الذين كانوا يفتحون قلوبهم قبل بيوتهم لنا , وأصبح الأسرائيلي يقدم لنا هذه الأيام في الصباح والمساء  دروساً في الجغرافيا لا يمكن نسيانها , يعدد لنا القرى التي لا نعرفها واحدةً واحدة , ويدعو أصحابها إلى إخلاء منازلهم على الفور, لأنه سوف يقصفها على الفور, ولم يخلف في وعده مرة واحدة.

الجغرافيا لا تقل حزناً ولا وحشيةً عن التاريخ , والإسرائيلي يكتب اليوم أسماء ضحاياه , وشهدائنا , بحبرٍ أحمر قاتمٍ , حتى صار لونها لون حدادنا , ممتداً على خريطة بلاد بأكملها , وليس ذلك صعباً على ما يبدو, لقد امتلأ , مثل وعاء ألماسي , بجثث الأحلام وأصحابها ,

وصار الحلم الأكبر والوحيد لدى البائسين هو البُعد عن هذا البلد الصغير , الذي كانوا يغادرونه طوعاً في الماضي , بحثاً عن الثروة , أو الكفاية , أو ما يستطيعون جمعه , من أجل أن يعودوا ويتمتعوا به في جبال لبنان , وعلى ضفاف الأنهر,لا بيوت يعودون إليها , فقد تفتتت جدرانها مثل الرماد , وطمر ركامها الصور التذكارية عن الطفولة والحقول والأعراس.

كثيرٌ كل هذا على بلدٍ بهذا الحجم , وكثير عليه , خصوصاً أن الفازعين إليه من بلدان الجوار, اعتادوه وطناً دائماً , وقد قالها الكبير محمد حسنين هيكل منذ عقود , (( بين الصحافة والسياسة علاقة مركبة كلاهما يحتاج إلى الآخر , وكلاهما يحذر من الآخر)) ,  ولأول مرة , اجد نفسي حذرا مرتبكا , في كتابة مقال ثقيل بتعقيداته , متعب بتشعباته  ,والكتابة في نهاية المطاف , هي بيان موقف إزاء كوارث وحوادث خطرة تصيب الأمة في عقر دارها , وتكون سببا بفقدان وعيها  , والأمم التي لاتكون لها دولة قوية , تعيش ممزقة ذليلة , الصديق عدوها , والعدو صديقها , أمة لا تفرق بين الحق والباطل , وبين العالم والجاهل , وبين الجاني والضحية , وبين المبتلى وصانع البلية , امة فقدت روحها وبوصلتها , منتصرة لقبائلها واحزابها , لا تبحث إلًا عن غنائمها , وكأن النضال صار مهنة وغنيمة , وحمل البندقية اشعار للرزق لا درء لمخاطر الهزيمة

أحدث المقالات

أحدث المقالات