مقامة فلسفة الفقر

مقامة فلسفة الفقر

في كتاب : قصة العقائد بين السماء والارض , لسليمان مظهر , يختار صاحبنا المندلاوي الجميل جملة تقول :  (( والفقراء عادة لايعرفون أنهم فقراء الا حين يبصرون الاغنياء بعيونهم )) ص ٣٢١ , ويعتبرها من الحقائق , ويضيف : (( كما أن تعريف الضوء يعتمد على معرفة ضده : الظلام )) , هذا التعبير يعني أن الفقير لا يدرك حجم فقره أو يشعر به إلا عندما يقارن نفسه بالأغنياء ويرى ثراءهم , فالمقارنة هي ما تكشف له فقر نفسه,  والفقراء عادة لا يعرفون أنهم فقراء ,  فقد يعيشون حياتهم بشكل طبيعي دون أن يفكروا في وضعهم الاجتماعي , فيتعودون على ظروفهم المعيشية , إلا حين يبصرون الأغنياء بعيونهم , عندما يرون الثراء والرفاهية التي يتمتع بها الأغنياء , فإن المقارنة بين الوضعين تجعلهم يدركون مدى فقرهم , أذ ان المقارنة هي مفتاح الوعي , وهي ليست نظرة مباشرة إلى الفقر نفسه , بل هي رؤية الآخرين الذين يملكون ما لا يملكه الفقير, مما يثير لديه الشعور بالحاجة والحرمان.

الفقر من أخطر المظاهر الاجتماعية التي تهدد العالم , وتؤكد على حتمية التغيير والقيام بثورة شاملة تضمن توزيع ثروات العالم بشكل عادل , تجنبه المآسي الحقيقية التي تظهرها الإحصاءات الحديثة لمنظمة الأمم المتحدة , وقد عُقدت قمة عالمية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة في مطلع الألفية الثالثة في يوم الفقر العالمي سميت (قمة الفقر) , وذلك من أجل القضاء على ظواهر الفقر والجوع والمرض, دونما فائدة تذكر, لأن الذين يملكون المال والسلطة أقوى وأعتى من كل القرارات الدولية التي لا تختلف في شكلها ومضمونها عن قرارات الجامعة العربية التي باتت فيلما كاريكاتوريا يثير السخرية والاشمئزاز.

الشاعر القروي رشيد سليم الخوري , هاجر إلى البرازيل وعمل فيها بائعا متجولا يحمل على ظهره صندوقا مملوءا بالسلع يطوف به في المناطق النائية معرضا نفسه لمشقات الحر والصقيع , تعرف ذات يوم على فتاة جميلة ابنة ثري أعجبها شعر القروي , فدعته إلى منزلها للعشاء , ومما جاء في مذكراته : (( لما دخلت إلى دارتها الفخيمة حسبتني أحلم بحكايات ألف ليلة وليلة ,لكنني هبطت من فضاء أحلامي إلى الواقع الأليم لما سألني صاحب الدار, وقد حسبني طالب زواج , ماذا أعمل , فأجبته : أنظم الشعر وأعزف على العود , تغير وجه الغني , وقال للشاعر: لعلك لم تقرأ أسطورة : الصرصور والنملة , فأجبته : بلى قرأتها , ومع هذا فضلت الصرصور على النملة , لأن الصرصور يغني ويطرب ويطير, فيما النملة تزحف على الأرض زحفا , لما سمع الغني هذا الجواب نظر إلي نظرة استخفاف , وغير مجرى الحديث , وعلى المائدة طلبت إلي الآنسة أن أنشد بعض أبياتي فأنشدت : (( بعدت همتي فعفت كنوز الأرض لما عرفت قيمة كنزي , لا أبالي شبعت أم جعت والفن شرابي وعزة النفس خبزي )) , في اليوم التالي تلقى الشاعر القروي بطاقة اعتذار من الآنسة عليها رسم صرصور, ومعها حوالة مصرفية بمبلغ كبير, ثمن ديوان الشاعر, وعنوانه (الأعاصير) , فأرسل إليها الديوان مع هذا الإهداء : إلى قطرة الندى التي تتحدى الأعاصير وتؤثر الشعر على المال الوفير, وأعاد إليها الحوالة المصرفية.

ذكرالمتنبي : (( ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر, فالذي فعل الفقر)) , ثم قال :
(( يَجْنِي الغِنَى لِلِّئَامِ لَوْ عَقَلُوا مَا لَيْسَ يَجْنِي عَلَيْهِمُ العُـدُمُ , هُمُ لأَمْوَالِهِمْ وَلسـنَ لَهُمْ وَالْعَارُ يَبْقَى وَالْجُرْحُ يَلْتَـئِمُ )) , أما الطرماح فقد قال : (( الفقر يزري بأقوام ذوي حسب وقد يسوّد غير السيّد المال )) , وهذا أمير الصعاليك عروة بن الورد , كان صعلوكاً شريفاً وشجاعاً ومقداماً , وقد استطاع أن يسمو بالصعلكة إلى درجة المروءة و السيادة , لأن الغرض منها كان نداءً يدعو للتضامن و التكافل الاجتماعي الذي يضمن الخير للجميع , ولا سيما الناس المعوزين من الأهل والأقارب , بل هي تأكيد بأن للفقراء حقا في أموال الأغنياء‏ , وقد أدرك أنّه لا مكانة للفقير في مجتمع يميّز بين طبقات المجتمع , فينال الغني مكانة مرموقة , أمّا الفقير فيصنّف مع الأشرار , لذلك أبى أن يكون فقيراً , فهو يسعى إلى تغيير حاله , كي ينال حظوة في مجتمعه : (( ذريني للغنى أسعى فإنّي رأيتُ الناس شــــرهمُ الفقيرُ , ويقصيـه النديُّ وتزدريه حليلته، وينهره الصغير )) ,وهو الذي لايستطيع القعود عن الغزوات , لأن عليه حقوقاً وواجبات يجب أن يؤديها إلى المحتاجين من قبيلته , ونسائها المعوزات , لهذا فهو يكره الصعلوك الخامل , بل يحب الصعلوك المشرق الوجه , و فيه يقول : (( ولله صعلوك صحيفة وجهه كضوء شهاب القـابس المتنور , ‏مطلاً على أعدائــه يزجرونه ‏بساحتهم زجر المنيح المشهر,وإن بعدوا لايأمنون اقترابه تشوف أهـل الغائب المتنظر, فذلك إن يلق المنية يلقها حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر )) .

لو قارنا حالة الفقر والغنى في تاريخنا العربي بين جاهلية الماضي وجاهلية الفساد الحاضر مابعد 2003 , لبكينا حالنا واسترحمنا على قريش وقوافلها التجارية إلى الشام واليمن التي كانت تضم ما يقارب ألفا من البعير أو يزيد , ولا تتجاوز حمولتها في رحلات عديدة حمولة حاوية واحدة من حاويات النقل الحديثة برا أو بحرا أو جوا , كان في الجاهلية قريش واحدة في الثراء والهيمنة والسطوة , أما اليوم  في الجاهلية الحديثة  ففي كل دولة مئات القبائل من قريش , وفي كل مدينة عشرات القبائل من قريش , وفي كل قرية قبيلة من قريش , وفي كل حي فخذ من أفخاذ قريش , وفي كل نفس نزعة من نوازع قريش , ففي الجاهلية قافلة برية من البعير تحمل الزبيب والجلود والحبوب , تملكها قبيلة من أغنى القبائل العربية وأسطاها وأنفذها تدعى قريشا , وفي جاهليتنا اليوم ألف قريش وقريش , يمتلك كل زعيم قرشي بمفرده أضعاف أضعاف ما امتلكت قريش برمتها منذ نشأتها إلى فتح مكة , فلا يملك الفرد القرشي اليوم قوافل من بعير تحمل الزبيب والجلود , بل تتراقص أصابعه على حروف حاسب آلي تتابع قوافله التجارية التي تمخر عباب اليم آيبة من كل أصقاع المعمورة , حاملة كل أصناف المنتجات من زراعية وصناعية وتجارية , لو رأتها نواظر قريش لآمنت بالإسلام من أول قافلة , فما بالك بالقوافل البرية التي تشق عباب السراب عبر الدول والقارات , تستطيع عدة مقطورات منها أن تحمل قوافل قريش ببعرانها وحمائلها وقوادها , وما بالك بالقوافل الجوية التي تخترق أجواف السماوات ليلا ونهارا غير مبالية بالسحاب ولا الضباب ولا غيث الشتاء ولا اللصوص وقطاع الطرق في العراء , كل أمير قريش وألف قريش , وكل زعيم مصطنع شبه جزيرة عربية تلف تحت عباءتها كل قبائل العرب الجاهلية في شبه جزيرتهم , وكل تاجر فاجر ألف ألف زعيم من زعماء قريش , أما الفقراء في الجاهلية فكانوا في رحمة إنسانية تتجلى في تتضامن القبائل بعضها ببعض في المحن والمصائب , وفي تعاضد أفراد القبيلة الواحدة الذين تربطهم رابطة النسب والانتماء تحت إمرة شيخ لديه من الحكمة والرأفة ورجاحة العقل ما يجعله بمثابة الأب الروحي للقبيلة.

ولكن فقراءنا اليوم باتوا تحت رحمة سماوية تعدهم بالجنة فيعيشون من أجلها , وليس لهم من قبيلة ترعاهم ولا من أفراد يحنون عليهم ولو رضعوا من لبان ثدي واحد , وباتوا تحت وطأة أمير يستعبدهم تارة باسم الوطن وتارة باسم الدين وتارة باسم القضايا الكبرى , فلا مطالب ولا حاجات ولا كلمات , تحت شعارعلى مساحة المزرعة وسمائها: الإله , الحاكم , الوطن , أما الشعب ففي شعارات قادمة بعد قيام الساعة .

 يقول فيودور دوستويفسكي : (( إنّ الأغنياء لا يحبون أبداً أن يشكو الفقراء حظهم جهاراً , و يظهر أن هذا يؤذيهم و يزعجهم , و البؤس مزعج دائماً على كل حال , كأن أنّات الفقراء تقلق نوم الأغنياء )) , وقال تشي جيفارا : (( الذي قال أن الفقر ليس عيبا كان يريد أن يكملها , ويقول , بل جريمة , ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحار )) ,  إلى جميع أغنياء العالم فربما يتعظون , وإلى سواد العالم من الفقراء والجائعين , فربما من سباتهم يستيقظون فينهضون , إلى سائر الأدباء والمفكرين الذين ما برحوا في جمهورية أفلاطون يحلمون , إلى أشقياء العالم البائس المهجرين الذين ما لبثوا بالعودة إلى أوطانهم يعلقون الأفئدة والعيون , ربما ينضب مداد الكلمات , ولا تجف العبرات من المآسي والويلات .

أحدث المقالات

أحدث المقالات