من حزمة الحشيش إلى سعف النخيل : كيف استنبط العلماء عقوبة شارب الخمر بالجلد؟
يقول الحافظ ابن كثير: ان قوله تعالى : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) وذلك أن أيوب كان قد غضب على زوجته , ووجد عليها في أمر فعلته , قيل : إنها باعت ضفيرتها بخبز , فأطعمته إياه , فلامها على ذلك , وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة,فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب , فأفتاه الله أن يأخذ ضغثًا وهو : الشِّمراخ ( الشرموخ ) , فيه مائة قضيب , فيضربها به ضربة واحدة , وقد بَرّت يمينه , وخرج من حنثه , ووفى بنذره , وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه , ولهذا قال تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أثنى الله عليه ومدحه بأنه ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أي : رَجَّاع منيب , ولهذا قال : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) الطلاق/2-3 ,تفسيرابن كثير (7 / 76) .
قصة نبي الله أيوب , أنه كان قد نذر نذرا لله إذا شافاه أن يضرب زوجته مائة ضربة , ويذكر المفسرون قصة حلف أيوب أن يجلد زوجته مائة جلدة في تفسير قول الله : (( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) سورة ص/44 , إن زوجة أيوب طلبت منه أن يتكلم بكلمة كان إبليس قد طلب من أيوب أن يتكلم بها , وهي كلمة غير شرعية , إما فيها تسخط على أقدار الله , أو نسبة الشفاء لغير الله , فأبى أيوب, وحلف إن شفاه الله أن يعاقب زوجته التي استجابت لما وسوس به إبليس اللعين , قال قتادة : (( كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر , وأرادها إبليس على شيء , فقال : لو تكلمت بكذا وكذا , وإنما حملها عليها الجزع , فحلف نبي الله : لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مئة جلدة , قال : فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا , والأصل تكملة المِئَة , فضربها ضربة واحدة , فأبرّ نبيُّ الله , وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ , والله رحيم )) جامع البيان للإمام الطبري (21/213).
ذكر الفقهاء في حد الزاني والقاذف وشارب الخمر أنهم يجلدون دون تمديد للجسد على الأرض وتكون المرأة جالسة محجبة , واتفق الفقهاء على أنه يجلد الصحيح القوي في الحدود بسوط معتدل , ليس رطبا ولا شديد اليبوسة , ولا خفيفا لا يؤلم , ولا غليظا يجرح ولا شديدا فيقتل , لأن المقصود تأديبه , لا قتله , ولا يرفع الضارب يده فوق رأسه بحيث يبدو بياض إبطه , ويتقي المقاتل , ويفرق الجلدات على بدنه وهذا هو المنصوص عن الأئمة كما في المدونة والأم للشافعي والمغني , فالزاني عقوبته جلد مائة لقول الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النور:2 ولقول النبي : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. رواه مسلم , ويجلد القاذف ثمانين جلدة , كما في الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور:4 , وفي صحيح مسلم أن ألأمام علي أمر عبد الله بن جعفر أن يجلد الوليد بن عقبة فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين , فقال أمسك ثم قال (( جلد النبي أربعين , وجلد أبو بكر أربعين ,وعمر ثمانين , ولكل سنة وهذا أحب إلي )) .
خرجت من صلة قصة أيوب بعقوبة شارب الخمرأحد أبرز الاستنباطات حين استدل بعض العلماء على معاقبة شارب الخمر بالجلد باستخدام سعف النخيل أو ما شابهه , وذلك للتخفيف مع تحقيق المقصود , كما خفف الله عن زوجة أيوب مع تحقيق معنى القسم (الضرب بمئة جلدة) , ويرى بعض العلماء أن هذا المبدأ يمكن تطبيقه في حالات أخرى , حيث يتم التخفيف في العقوبة مع الحفاظ على جوهرها , وكيف أن ضربة واحدة بحزمة حشيش ذات مئة عود لا تحقق الألم والإيذاء المقصود من مئة جلدة بالسوط , وهذا يشير إلى إمكانية استبدال الأداة الأصلية للعقوبة بأداة أخرى أقل إيلامًا في ظروف معينة. ويرى بعض العلماء أن الخمر أشد ضررًا من الحشيش , وبالتالي فإن العقوبة المخففة للحشيش يمكن أن تقاس عليها عقوبة مخففة للخمر باستخدام أداة أخرى غير السوط , مثل سعف النخيل , الا أن هذه المسألة ليست محل إجماع بين العلماء , حيث هناك من يرى أن قصة أيوب هي حالة خاصة ولا يمكن القياس عليها في الحدود الشرعية , وهذه هي الحكمة من اختلاف العلماء حيث أنه يثري الفقه الإسلامي ويوسع آفاق الفهم , وعليه أن فهم النصوص الشرعية يتطلب تدبرًا عميقًا ونظرًا في أقوال العلماء واختلافاتهم , لأن الهدف من العقوبات في الشريعة الإسلامية هو تحقيق العدل والردع والإصلاح , وأن كيفية تطبيقها قد تختلف باختلاف الظروف والاجتهادات.
في الخلاف للشيخ الطوسي ج 5 ص 490 : (( ان حد شارب الخمر ثمانون جلدة , وبه قال أبو حنيفة وأصحابه , والثوري , ومالك , لا يزاد عليه ولا ينقص منه , وقال الشافعي: حده أربعون , فإن رأى الإمام أن يزيد عليها أربعين تعزيرا ليكون التعزير والحد ثمانين فعل , دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم , وأيضا روى شعبة , عن قتادة , عن أنس بن مالك: أن النبي عليه السلام جلد شارب الخمر بجريدتين نحو أربعين , وإذا كان أربعون بجريدتين كان ثمانون بواحدة , وروى منبه بن وهب , عن محمد بن علي , عن أبيه : أن النبي جلد شارب الخمر ثمانين , وهذا نص , وهو إجماع الصحابة , وروي: أن عمر استشار الصحابة , فقال: إن الناس قد تبايعوا في شرب الخمر, واستحقروا حدها , فما ترون ؟ فقال علي : إنه إذا شرب سكر, فإذا سكر هذى , وإذا هذى افترى , فيحد به حد المفتري , وقال عبد الرحمان بن عوف: أرى أن تحده كامل الحدود ثمانين , فثبت بذلك أنهم أجمعوا على الثمانين )) .
شمروخ هو اسم علم مذكر من أصل عربي , ومعناه هوالعذق عليه البسر , والغصن الغض الحديث النشأة , وهم يفتحون الشين وصوابه الضم ,شرموخ النخل ويستعمل بعد أن يجف ويؤخذ منه التمر يستعمل في كنس الأرضيات الشمروخ وجمعه شماريخ هو عذق النخل أو عثكوله , وهو فصيح ويُقال: شمروخ وشِمراخ في العربية , وعرفه الشيخ الحنفي: خصلة من عثگ التمر, أي من عذقه (معجم اللغة العامية البغدادية ج1 ص488) , وذكره تحسين عمارة : عثگ آو عثق (وآصل اللفظ من العربیة: شمروخ وقد حدث قلب مكاني (الشمروخ غصن دقيق رَخْصٌ ينبت في أعلى الغصن الغليظ خرج في سنته رِخصْ) تاج العروس 4/ 284