بخفوت عذبٍ يغمرني أعاود أستذكار أسفار المناضلين العراقيين , وأثناء نزهاتي في هذه الأسفار, عاودتٌ قراءة خزين أفكاري , وقررت  أن أقطف من كل خيال زهرة ً واحدة ً أهبها لأحفادنا وحفيداتنا , وللرفاق الذين اقتسموا الهجير والغبش الوطني والنضالي , وفي مقامتي هذه , لا توجد مخيلة الشاعر أو الروائي , بل دقة اقتباس المثبّت في كتب المناضلين , وهكذا في إبحارٍ مستمرٍّ في تجميع خطوط وخيوط متفرقة لتتكّون لديك ظفيرة واحدة , وكتلة بذاتها , تكشف لك أبعاد الصورة , وتفسّر لك غوامض الواقع الذي تراه أمامك , ومكامن القوة والضعف فيه , وإمكاناته الثاوية في دواخله , أَسَرَّتْك هذه الإمكانات أو أزعجتك.

عام 1998 كنت ذاهبا للقاء وزير التربية الدكتورفهد الشكرة , للتنسيق وألأعداد لنشاطاتنا في الوفد الذي سيغادر الى نيويورك برآسته , كان مكتبه في الطابق العاشر من بناية الوزارة , وقد وجدت أسمي مكتوبا لدى ألأستعلامات وأستحصلت باج الصعود , لمحت ألأستاذ محمد دبدب بمصاحبة ألأستاذ مؤيد البدري , كان ألأثنان مبتعدان عن ألأضواء في تلك الفترة , لكنهما مطبوعان في ذاكرتي وذاكرة المجايلين لفترة جميلة من تأريخ العراق الذي كان متسلقا طريق التنمية والتقدم والنجاح , المفاجأة ان موظفي ألأستعلامات لم يتعرفوا عليهم , ولم تكن أسمائهم مسجلة لديهم , حيث كانوا من الحرس الخاص المكلف بحماية الوزارة , وكانوا جميعا من الشباب الذين تم أختيارهم من قرى ومدن محافظة صلاح الدين الممتدة من الشرقاط شمالا الى الدجيل جنوبا , صعدت الى مدير مكتب الوزير وابلغته بالموضوع الذي سرعان ما أصدر تعليماته لصعودهما , وعندما تلاقينا في المكتب بادرت ألأستاذ مؤيد قائلا : هل خطر ببالك أنه سيأتي جيل في العراق لا يعرفكما ؟

من أخلص الذين اعتصموا بزهرة الياسمين , كلاهما من الذين ساهموا بصياغة أحلامنا, حتى الخطوة الأخيرة , وهما فوق هذا الأديم العراقي الذي يخضوضر, بالتضحيات والمكابرة نحو غد ٍ أجمل ,لذلك من طيّب القول الإشادة بطيّب العمل , فنحن أسرى اللحظة , نظنها وحيدة فريدة ليس لها والد ولا ولد , بينما الحقيقة أن الإمعان في الإصغاء لأحداث التاريخ وجهود ملهمي ألأجيال وافعالهم , ينير العقل , ويهدي الرأي , ويضعه في المسار الصحيح.

مؤيد البدري ,  ايقونة الرياضة العراقية , والاسم الذي له رنينه الخاص في نفوس العراقيين جميعا على مر السنوات التي تقترب من نصف قرن , والصوت الوطني الذي علّمنا المواطنة مبكراً من خلال تماهيه مع اهداف الوطن , صوته الممتلئ غيرة وشهامة وحباً , يقرع في آذاننا معلقاً ومشجعاً وموجهاً , كان احد (الموروثات الشعبية) ان صح التعبير , لانه ارتبط بالذاكرة الشعبية التي ما زالت أجيالنا تحمله على سطحها وتستأنس به , كما ان موسيقى المقدمة والنهاية لبرنامجه الشهير (( الرياضة في أسبوع )) , ارتبطت لدى الناس بأسم البرنامج , وليس بأسم سمفونية (حلاق اشبيلية) , وانها حملت اسم مؤيد البدري وليس الموسيقار الإيطالي (جواكينو روسيني) ,لازال الكثير من العراقيين يتذكر صوته الذي قالوا عنه إنه (( يطرب مسامعهم )) , ويعد البدري الذي ولد في بغداد عام 1934 , ويعتبر من أبرز المعلقين الرياضيين في البلاد , الذي حصل على دبلوم التربية البدنية عام 1957 في بغداد , وبكالوريوس عام 1959 , وماجستير من أميركا عام 1960,  أول المعلقين الرياضيين بالعراق , عمل أستاذا بكلية التربية البدنية 1963 في بغداد , ومديرا عاما بوزارة الشباب عام 1967 , وأمينا عاما لاتحاد الكرة 15 عاما , ورئيس للاتحاد عام 1977, وخارج العراق عمل مديرا عاما للنادي العربي في قطر عام 1998, وعمل في صحف وبرامج رياضية قبل أكثر من 4 عقود.

محمد دبدب ¸ زينة شباب بعقوبة , هذا الاسم الذي سبق عطر ذكره الحسن معرفتي له , والذي اقترنَ بكلِّ خيرٍ ومنفعةٍ للآخرين من خلال حضوره في قيادة الحركة الطلابية , مازالت حياته العامة التي تحفل بالكثير, تذكرنا انه مشى في عون كثيرين , ومساعدتهم , وتذليل ما اعترض طريق حياتهم , وهم يخطون آولى خطواتهم الجادة نحو المستقبل الزاهر , والذي كان بحق ذا تركيبة إنسانية , صقلَها النضال ومقارعة خطوب (الزمن) , لما أنطوت عليه نفسه من بساطة مُحبّبة وعفوية صادقة , مر ويمر بظروف جعلته كقابضِ جمرٍ, الا انه بقي عَذْبا , يشدّ الأزر, ويبعث على الطمأنينة , إن صدق محمد دبدب , فطرة عمّقتها الحياة , واغناها العمل الطلابي , فألتقى في ذاته , صدقان تَوحّدا , فكان تعبيراً إنسانياً لا تملك إلا الاحتفاء به .

وفي عمقِ الحكاية ,حيث لا أحدَ يسمعُ أغنياتِنا المبتورة ,ينمو السكونُكضوءِ قمرٍ في بحرٍ هائج ,وتطفو الذكرياتُعلى سطحِ الروح ,تُحاكينا عن عالمٍيتنفسُمن خلفِ الجدرانِ الصامتة , عن قمرٍلا يعرفُ الأفول , يقول سعدي يوسف :

((ولمّا ركزْنا بالعراقِ رماحَنا تدافع من أدنى منابتها الصبْحُ
تعالوا إلينا: متعبين ورُمّضًا تعالوا إلينا: إنه الأمل الجرحُ
أقيموا, وكونوا الماء يمنع نفسه وكونوا رماح الماء إن أورق الرمحُ )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات