طلب مني أحد الأصدقاء أن أكتب حادثة مر بها , فاجأته اليوم حين نادته (( عمي )) , كان مكانها شغاف القلب و تلافيف الروح و حنايا الوجدان , كان يسمع صوتها ليس بالكلمات , بل بما بين الكلمات , تتسرب اليه بين الشقوق الخفية في الروح , كضوءٍ خجولٍ يعبر زجاج نافذةٍ في مساء شتوي , يراها ليس كما تُرى الأشياء ,بل كما يُرى الحلم قبل أن يعلن انتحاره على وسادة الواقع , صدمته بكلمة ((عمي )) , فهربت الأشياء من معناها , وأصبح البحر أبعد ,والسماء أعمق ,والأرض كأنها تبتلع نفسها في دوامة صمت , حتى الريح التي تحمل أنفاس العالم ,توقفت أمام هول الكلمة , أرتعشت ثم أختفت .
ما أوجعها كلمة (( عمي )) عليه , لم تكن عيناها مجرد نافذتين على العالم ,بل هما عالمه نفسه , خريطةٌ مرسومة بلون الغسق ,حيث يلتقي الليل والنهار في رقصةٍ أزلية , كأنها لحنٌ لم يُعزف بعد ,أو سرٌ دفينٌ نسي الزمن أن يكتبه , كل شيء فيها يحمل تناقضًا مدهشًا ,كالنار التي تُدفئ وتُحرق , كالزهرة التي تعيش في قلب صخرة ,كالصوت الذي يملأ الصمت , لم يكن يسمع كلماتها حين تتحدث ,بل يسمع الفجوات بين الحروف ,ذلك الفراغ الذي يبتلعه , ويعيد تشكيل وجهه بألف وجهٍ لا يشبهه , كأنه يذوب فيها , ولا يعود هو , بل لا يعود أحدًا .
رحماه من كلمة (( عمي )) , حين قالتها تلك التي تشبه الغياب ,وتشبه الحضور, وتشبه كليهما في آنٍ واحد , فهي القصيدة التي كتبها قلبٌ لم يتعلم القراءة , والغيمة التي تمطر فوق صحراءٍ نبتت فيها أشجارالصمت , كل ما كان يطلبه ان تبقى في الشغاف , لم يطلب أكثر , ان تكون تلك النقطة بين السطرين , ذلك البياض الذي يفصل بين الكلمات ,ذلك المعنى الذي لا يُقال , لكن نصل (( عمي )) ذكره ب (( بروتس )) , وأشعره بالطعنة حتى الأعماق .
حين قرا كلمة (( عمي )) , شعر كأنها تكتبه بأبجديةٍ لا يعرفها ,حروفها ليست من ضوءٍ ولا من ظلال ,بل من شيءٍ أبعد , شيءٍ يُشبه صرخة ولادةٍ لم تُسمع ,أو أغنيةً نسيتها الطيور في أعشاشٍ غارقةٍ في النسيان , وهو الذي كان حين يراها , يشعر بأن الكون نفسه يتعلم من ملامحها , أن النجوم ترتب مواقعها لتقترب من عينيها , وأن الريح تغيّر اتجاهها , كما لو أن حضورها قانونٌ جديدٌ للفيزياء ,لا يفسر إلا بالدهشة , لقد كانت هي الحافة , حافة الشيء الذي لا اسم له , كأنها لحظة ما قبل الانفجار العظيم ,حيث لا وقت , ولا مكان , ولا احتمال ,مجرد فكرةٍ تسبح في العدم ,ومجرد عدمٍ يتشبث بالفكرة .
في رواية الجريمة و العقاب , يقول فيودور دوستويفسكي على لسان بطله : (( أتدري ما هو الحنين ؟ الحنين هو حين لا يستطيع الجسد أن يذهب إلى حيث تذهب الروح )) , فكيف لها أن تكون كل هذا ؟ (( عمي ؟ )), كيف تحولت من حلمٍ هشٍّ , إلى يقينٍ صلب , ثم تعود رمادًا ناعمًا يتسلل بين الأصابع ؟علها تبقى كذلك , سرابًا لا يُدرك ,ولكنه يروي عطش الروح ,لغزًا لا يُحل , لكن وجوده وحده يبرر السؤال .
أتعرفين ماذا تعني كلمة (( عمي )) ؟ أنه التفريغ المؤدب , حين تُكتب نهاية العلاقة بلغة الامتنان لا بالاعتراف , هو ظاهرة نفسية يتبعها بعض الأشخاص , خصوصًا من يملكون نمط التعلّق المتجنّب (Avoidant Attachment) , حيث لا ينهون العلاقة بصدام أو صمت مفاجئ , بل عبر رسالة دافئة ظاهرها الامتنان وباطنها الوداع , هذه الرسائل غالبًا ما تتضمن : (( أقدّر وجودك الدائم في حياتي , ساعدتني في مراحل لم أكن أفهم فيها نفسي , لا أعرف لماذا أكتب هذا الآن , لكنني شعرت أن عليّ أن أفعل , عمي , أخي )) , كلمات تبدو بريئة , لكنها في الحقيقة تُغلق الباب بهدوء , دون أن تعلن ذلك بصراحة.