أعيد تشكيل نفسي كل صباح , كالسر الذي لا يقال , لا أنتمي إلا إلى لحظة ضائعة بين رقصات الهواء , بتوقيت لم يتغيّر منذ ما لا يُعدّ , كفتحة صغيرة في حلم عميق , تلتقط ظلال النظرأسئلة أطراف الذاكرة , نفس اللحظة , نفس المكان , لا شيء يتكرر إلا في الإيقاع المخفي , ووجود يملأ الفراغ كما يملأ السؤال نهايته , وصمتٌ يسمع في ضجيج غير مسموع , أخط في دفتري الرمادي كلمات لا تحوي معانٍ , فقط صدى , ومادام السؤال لم يُطرح , فكيف يولد الجواب ؟

يخترقني التوازن , ثم يغيب , وغيابه ليس حدثًا , كأن الهواء يصبح أثقل , وأصبح خدرًا بلا صوت , ووجودا زائدا لا يحتمل , ليبدأ في الظهور في الانعكاسات , وفي يوم عبثي لم يُسمّ بعد , حين اختنق الوجود بصمت غريب , رأيته , كان الدرويش واقفًا على الجانب ذاته , لكن لم يعد ظلاً , رفع عينيه نحو السماء بلا لون , وأضاف دون صوت : (( حين يفتح أحدهم نافذته عمدً , يريد أن يُلامسه غياب )) , أخيرا فهمت , لم أكن أنتظر أحدًا , وكانت النافذة مفتوحة لتسمح للغياب بالمرور.

هكذا قالت الحياة : في كل زمان ومكان , الجاهل أكثر جرأة من العارف , يقف الجاهل فوق قمة من الوهم يوزع اليقين بلا تردد , ويتصدر ويتنمر ويتهم الآخرين بالجهل والتردد وانه حامل الشعلة , بينما ينزوي العارف في ظلال الشك , حين يتكلم يتحفظ حتى إن تيقن , فيظن الناس انه ضعيف لا يثق بعلمه , هذا ما لاحظه الفلاسفة في عمق التاريخ: الجاهل لا يدرك جهله , بينما العارف يزداد وعيًا بحدود علمه , ترسم منحنى نفسيًا تبدأ فيه الثقة بالنفس عند القاع ثم تصعد مع قلة الخبرة إلى ذروة وهمية , لتنهار لاحقًا مع بداية الوعي , قبل أن تعود إلى الصعود بثبات مع التعلم الحقيقي : الجهل لا يولّد فقط ضعفًا , بل قد يمنح صاحبه ثقة زائفة تتجاوز حدود الواقع.

عندما تدخل قلب مزار حلال الدين الرومي في مدينة قونية , تحيطك الدهشة , وتقرأ ما سطره من كلمات وأشعار وكأنه يعلم ان مزاره سيكون مكاناً يقصده الزوار :(( انت ضيف يا قلب , افرح بما تجده , وليس بما تتمناه , ما تبحث عنه , يبحث عنك , القلب جوهر , والقول عرض , القول زائل , والقلب هو الغرض )) , ويقول في مكان آخر :

(( ايها البشر الأنقياء , التائهون في هذا العالم , في هذا التيه من اجل معشوق واحد , ابحثوا عنه في دواخلكم , فما انتم سوى ذلك المعشوق , النور الذي في العين , ليس أثراً من نور القلب , وهو من نور الله )) , ومن اجمل ما قاله جلال الدين الرومي من أشعاره المترجمة التي شغلت اغلب المثقفين في العالم , بقواعد عشقها , وصفاء وبهاء كلماتها : (( بدأت اتعب من المخلوقات , أريد جمال الخالق , وحين أتطلع هناك , هناك فقط ,أرى نفسي , وحين أتطلع إلى نفسي ارى ذلك الجمال , دع روحك تجذبك بصمت إلى ما تحبه , انها لن تضلك أبداً )) , أخيرا تقرأ أنه كتب مرة : (( إلهي خذ روحي إلى ذلك المكان الذي اتحدث فيه من دون كلمات )) .

 

سألت ريحانه الحجاج : والعدل؟ قال : ذلك مجرد وهمٍ يردده من لا يعرف شيئاً عن الحكم , مثل هذا (وأشار الحجاج بإصبعه الى اسم سعيد بن جبير) , تبِع ابن الأشعث في تمرده , وأوقد نيران الفتنة , وتحدث للناس عن ضرورة فهم القرآن , قالت : وما الضير في ذلك ؟ نظر الحجاج بتعجب نحو ريحانة قبل أن يجيب : لو فهِم الناس ما في كتاب الله لأدركوا ان الخوف بابٌ من أبواب الشِرك , تخيلي لو أنهم نزعوا الخوف من قلوبهم , فما الذي سيتبقى للسلطة من قوة ؟ , كيف سنزرع الطاعة في صدورهم؟ , كلمات ابن جبير كانت فتنة , وهي التي أوصلته الى مصرعه على يدي , ردت ريحانه : لكن كلمات ابن جبير بَقيَت حيّة في أذهان الناس , أجاب : ربما , وإن حملها أحدهم في رأسه فسيف الجلاد ينتظر سماع صوتها ليمحوها بيُسر .

في بلد الألواح الطينية , وبيت الحكمة , ومهد الأدب والفلك ,في عراقٍ ذي إرث حضاريُّ وإنسانيٌ عريق , حيث سُطرَّت ملحمةجلجامش , وابتُكرت علوم الفلك والطب , وشيدت الزقورات وسُنَّت شريعة حمورابي , ووُضعت اللبنات الأولى للحضارة البشرية , ودونَّت أقدم القوانين , وأُسسَّت أول مكتبة في التاريخ , وكانت الحضارات تكتب التاريخ لا تكتفي بقراءته , وتخطَّ الشرائع لا تنتظرها من الغيب, في هذا العراق , يعلو اليوم دخان البخور, وتتصدَّر الخرافة على صوت العقل , وينحدر إلى زمن تُستبدل فيه المعرفة بالتعويذة , ويُستفتى فيه رجل دين بدل المُفكر, وتلجأ المرأة إلى (( المعالجة الروحية)) لطرد النحس من بيتها مستنجدة بوهم (( الخلاص الغيبي )) , بينما اطفالها بلا مدرسة ولا كهرباء ولا ماء نظيف, ففي هذا البلد تحلَّ المعضلات السياسية عبر (( قسَم الولاء عند الضريح)) لا بموجب الدستور.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات