مقامة طباخات الرطب

مقامة طباخات الرطب

نشر المنبر الثقافي العربي الدولي تحت عنوان (( هي قالت )) الشاعرة نخلة العراق : (( ضحكتْ وبكتْ وهي تروي الحكايا , رأينا الّذي أبصرَتْهُ وضوحَ المرايا , وكانت تعلّمنا حكمةَ الدّهرِ أن نمسكَ الجمرَ قبل العطايا , هي قالت وقال الصّدى بعدها ليس يبقى سوى الذّكر , طوبى لمن تركوا بعدهم طيبَ رندٍ ومسكٍ وحُلْوَ السّجايا )) ,كلنا يعرف نخلة العراق , وندرك ان إعادة العراقيّ إلى نخلته جزء لا غنى عنه في الحفاظ على هويَّة العراق , النخلة أيقونة عراقيَّة , منذ ما قبل التاريخ , لم يُذكر العراق إلّا وذُكرتْ معه هذه الشجرة الكريمة , وحملتْ النقوش السومريَّة صورةً للعراقيّ مع نخلته , التي تغنّى بها المنشدون في المعابد , لقد كان اسم العراق أرض السواد آتياً من غابات النخيل الكثيفة التي تغطي سهوبه المترامية , , يكفي أنْ نتذكّر قول أبي العلاء المعرّي : (( وردنا ماء دجلة خير ماءٍ وزرنا أشرفَ الشجرِ النخيلا )) , أو السيّاب حديثاً الذي وصف عينيْ حبيبته بغابة النخيل : (( عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر )) .

في الجنوب حيث الشمس عمودية في أكثر ساعات اليوم , إذ يحتاج النخل تلك الحرارة المرتفعة حتى يتم نضج ثمار النخل والرطب , يقولون في المحكية العراقية الدارجة (( طبّاخات الرطب )) , وتكمن الغرابة المحضة في التشابه العجيب بين النخلة والإنسان , من الاندفاع والانتصاب والوقوف , وتكمن روح كل منهما في رأسه , ولو أنك قطعت رأس أحدهما مات في الحين واللحظة , وفي الثقافة الاسلامية أطلق عليها الرسول الكريم (( ابنة عمّ الإنسان )) , ومثل هذه السمات ألهمت عالماً عربياً فوضع النخلة والإنسان في سلة واحدة , إذ رصد (( كمال الدين القاهري )) صفات مشتركة فالنخلة : (( ذات جذعٍ منتصبٍ , ومنها الذكر والأنثى , ولا تُثمر إلا إذا لُقّحت , وإذا قـُطع رأسها ماتت , وإذا قُطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله , كما لا يستطيع الإنسان تعويض مفاصله , والنخلة مغشّاة بالليف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان )) , وهي الشجرة الوحيدة التي تستوفي جميع هذه الصفات وأكثر, لذك كانت رمزاً وجسداً للثقافة العراقية بقدمها وهويتها وديموميتها.

 

النخلة موغلة في القدم , إذ بدأت رحلتها الطبيعية منذ 80 مليون عاماً (( العصر الطباشيري )) , وتأقلمت مع المتغيرات البيئية الصعبة فصمدت حتى يومنا هذا بفضل خصائص وراثية كقدرتها على مقاومة ملوحة الأراضي وارتفاع الحرارة , وخصائص فيزيولوجية مهمة من مجموع جذريّ ضخمٍ يصل إلى أكثر من مترين طولاً ويمتد على الجوانب عدِّة أمتار, وأوراقها الريشية التي تُعرف بالجريد (( السعف )) تغطى بطبقة شمعيّة تقيها الغبار والحر, وفي النخل أناث وذكور كالبشر تماماً يقفون كأسر نووية أو ممتدة يترافقون في رحلة الحياة الأبدية , ويتوالدون كالبشر من رحم نخلة , طفلاً أو فسيلة صغيرة يمكن وضعها في مكان آخر لتنبت نخلة أخرى فتية , شقيقا أو شقيقة في مستعمرة النخل.

 

النخلة شجرة الجنة السومرية , وعُرفت في العالم القديم بـ (( الشجرة الطيبة )) و(( شجرة الحياة )) , و(( شجرة العذراء )) , وعكست صفاتها المتعددة التقاء الشعوب والأديان , وهي عندهم شجرة الحياة والمعرفة , والاعتقاد السائد حولها بأن من يأكل ثمارها يصبح حكيماً ومبصراً , وهي تمثل شجرة الشفاء من الأمراض , وترمز إلى الخصب لهذا السبب هي علامة (( ديموزي )) إله الخصب , وهي شجرة الجنة السومرية التي كانت منتشرة في دلمون , وسماها السومريون (( جشمار)) , واطلق عليها البابليون (( جمارو )) , وما زال العراقيون يسمون لب النخيل بالجمار, وصنف السومريون النخلة إلى سبعين صنفاً , وكانوا يعنون بالنخل كعنايتهم بملوكهم , وتم تخليدها من خلال الرقم الطينية , ونقشوها في قصورهم وجدرانهم , وبكل ما يمكن النحت عليه من خشب ومدر , وزيّن النخيل معابد بابلَ ومصر القديمة بنقوشات كثيرة كما عرفها الآشوريون والسومريون باستعمالات طبية جمة , ونقلت هذه الشجرة في العصور الوسطى لبعض دول أوروبا كإسبانيا وإيطاليا وفرنسا عبر عرب الأندلس , كما زرعت واحات في صحراء كاليفورنيا بأصناف نخيل متنوعة ومختلفة.

 

سُئل أحد العراقيين القدماء ما هي اثمار بلادكم ؟ فأجاب التمر , ثم ماذا عندكم بعده؟ فأجاب التمر أيضا , ولما استغرب السائل من هذ الجواب , قال العراقي ألعريق : (( لا شيء هناك يضاهي تناول التمر الطازج , ونستفيد من فوائد النخل العديدة فأننا نستظل به من وهج الشمس , ونأكل ثمرته , ونعلف ماشيتنا بنواته , ونعلن عن أفراحنا بسعفه , ونتخذ من عصارته عسلاً وخمراً (عرقاً) , ونصنع من جريده وخوصه الاواني والحصران وغيرها من الاثاث , ونصنع من جذعه خشباً لسقوفنا , وأعمدة لبيوتنا , ووقود الطبخ )) , لقد وهبت الطبيعة العراق بأفضل فاكهة عرفها التاريخ القديم والحديث وعرفتها شعوب العالم على مر الزمن , فالتمور تعتبر خبز وفاكهة الصحراء التي يتغذى عليها الغني والفقير على السواء , وهذه الفاكهة اللذيذة المذاق (التمر) هي نتاج سيدة الشجر(النخلة) التي جاء ذكرها في اللوحات السومرية والكتب السماوية ولم تحظ شجرة غيرها على مثل هذا التكريم.

طباخة الرطب , التي كتب عليها أن تكون شاعرة الشتات العراقي في مشهده العبثىِّ الأخير , تعتزّ بتسميَها نخلة العراق , بكل ما تمثله النخلة من أطياف ورؤى وتعبير عن الهوية العراقية , في ديوانها (( بكيت العراق )) , تكتمل لساجدة الموسوي دورتها الشعرية الحافلة , وتبكي قسوة الشتات العراقي الذي تعيشه , والذي يتسع مداه وتعنف مشاهده , ليصبح شتاتا عربيا متجسدا في أكثر من بلد عربي , ويصبح بكاؤها العراق , دمعة تنسكب من شاعرة مرهفة الحسّ , صادقة الوجدان , منذ كانت دمعة مالك بن الريب , التي تضعها الشاعرة في مستهل ديوانها : (( تذكّرت من يبكي عليّ , فلم أجدْ سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا , وأشقر عسّالٍ يجرُّ عنانه إلى الماء , لم يترك له الدهر ساقيا )) , يقول عنها رعد بندر : (( المرأة الشجاعة التي انتصرت على الوجع والضعف وجحود الآخرين , والشاعرة التي قُدّر لها أن تحمل فانوس الشعر في النهارات المعتمة , وحيدة مثل نخلة في صحراء , حزينة مثل سيف على حائط , دامعة مثل دلاءٍ على بئر راكدة , ومع هذا كلّه فهي مضاءة بوحدتها وحزنها ودموعها )) .

تلك التي التوى غصن عمرها على نخلة في العراق , قالت : (( سرقوا وطني وقتلوا أهلي وغرَّبوا أسرتي , فجنّدتُ شِعري لأدب المقاومة أمسك تفاحة روحي كيلا أسقط )) , عشقَتِ العراق حتى صار شهقة روحها , فلما بكتْه تبدّل حالها من (( نخلة العراق )) إلى (( تمثال من الحزن )) , تمسك تفاحة روحها كي لا تسقط , فالريح تراود تفاح الأرواح بَيد أنها ما تزال تمتطي حُلم القصيدة رسولا لوطنها , ذلك الذي يليق به الأمل والنهوض من كبوته , حيث ترى الوطن سفينة تخوض غمار طوفان الاحتلال والصراعات الداخلية لتصل للمَرسى مهما واجهت من هيجان وزبد وغث يطفو بلا جذور, لقد قر في يقينها أنّ الشِّعر قد اختارها ليكون الهدهد الأمين على توصيل رسالة عشق وتحدٍ لتجاوز الإحباط والقنوط وترميم الواقع الذي آل إليه وطنها.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات