بشار بن برد يرجوخ العُقيلي , (96 هـ – 168 هـ) , أبو معاذ , أشعر المولدين على الإطلاق , أصله من طخارستان غربي نهر جيحون ونسبته إلى امرأة عقيلية قيل أنها أعتقته من الرق , كان ضريراً , نشأ في البصرة وقدم بغداد , وشعره كثير متفرق من الطبقة الأولى , جمع بعضه في ديوان , شاعر مطبوع إمام الشعراء المولدين , ومن المخضرمين حيث عاصر نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية , ولد أعمى وكان من فحولة الشعراء وسابقيهم المجودين , ويُعد من أبرز الشعراء المجددين في عصره ,تميز شعره بجمعه بين القديم والحديث , والجمع بين الحكمة والمجون , وعُرف بشدة لسانه ووقوعه في الهجاء, خاصةً هجائه للخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داود , كان غزير الشعر, سمح القريحة , كثير الافتنان , قليل التكلف , ولم يكن في الشعراء المولدين أطبع منه ولا أصوب بديعا , قال أئمة الأدب: (( إنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا يروي من شعر بشار فيما هو بصدده )) , وقال الجاحظ: (( وليس في الأرض مولد قروي يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه )) , اتهم في آخر حياته بالزندقة , فضرب بالسياط حتى مات , ودفن بالبصرة .
كان أبلغ العميان وأتى بما لم يأت به المبصرون , ومن أجمل تشبيهاته : (( كَأَنَّ قَرقَرَةَ الإِبريقِ بَينَهُمُ صَوتُ المَزاميرِ أَو تَرجيعُ فَأفاءِ )) , (( كأن إبريقنا والقطرُ في فمه طيرٌ تناول ياقوتًا بمنقارِ )) , (( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه)) , (( وكأن الشيب على رأسه ليلٌ يصيح بجانبيه نهارُ )) , هناك من يقول انه للفرزدق , (( التينُ يعلو فوق كُلٍ فاكهةٍ اذا ذُبِّـلَ على اغصانهِ الزاهي , مُخرمشُ الوجهِ قد سالت مدامعهُ كأنه الباكي من خشيةِ اللهِ )) , (( ودعجاء المحاجر من معدٍ كأن حديثها ثمر الجنان )) , (( من أروع ماقال وقد استهداه بصير فمشى به حتى أبلغه الموضع الذي ينشده ثم أنشأ يقول : أعمى يقود بصيرا لا أبى لكمو قد ضل من كانت العميان تهديه )) .
كانت الكلمات هي عينا بشار بن برد , ومرآته التي تعكس العالم من حوله , هذا الشاعر العباسي , الذي وُلد أعمى , لم تحجب ظُلمة البصر عنه بصيرة داخلية أدهشت الأبصار وأبانت عن قدرة فذة في الوصف والتشبيه , تفوقت في كثير من الأحيان على رؤية المُبصِرين أنفسهم , لم يكن بشار شاعرًا يرى الأشياء وحسب , بل كان يستشعرها بعمق, يلامس جوهرها , ويُخرجها في صور شعرية زاهية لم يتسن لأحد أن يلحظها قبله , لذا يستحق بجدارة لقب (( شاعر الكأنات )) , لقد أثبت بشار أن الرؤية الحقيقية ليست حبيسة الأعين , بل هي نتاج إحساس مرهف , وذكاء متوقد , وموهبة فطرية , كيف لشاعر لم يرَ نور الشمس قط أن يصف الشروق والغروب بتلك الدقة المتناهية التي يراها المُبصر؟ وكيف له أن يرسم لوحات شعرية للبساتين , والأنهار, والخيول , وكأنها مرسومة بفرشاة فنان رأى أدق تفاصيلها ؟ الإجابة تكمن في قدرته على تحويل حواسه الأخرى إلى نوافذ يطل منها على الكون , كان يستمع إلى أصوات الحياة , يشم روائحها , يلامس ملمس الأشياء , ثم ينسج من كل ذلك خيوطًا من الخيال واللغة لتصنع نسيجًا شعريًا فريدًا.
تميز بشار بقدرته على (( التشبيه )) الذي تجاوز المألوف , فكان يأتي بتشبيهات مبتكرة وغير متوقعة , تجمع بين أشياء قد تبدو متباعدة , لكنها في رؤيته العميقة تتآلف لتُخرج معنى جديدًا وجمالاً فريدًا , لم يكن يصف ما هو ظاهر فحسب , بل كان يغوص في أعماق الأشياء ليُخرج منها ما خفي عن الأعين , ويكشف عن علاقات وتفاصيل لم يتصورها أحد , كان يرى الكائنات من منظور مختلف , منظور الروح والبصيرة , فمنحها حياة وعمقًا إضافيًا في شعره , وبالتالي , فإن (( شاعر الكأنات )) ليس مجرد لقب لبشار بن برد , بل هو وصف دقيق لجوهر عبقريته , فقد كان شاعرًا يستنطق الجماد , ويُحيي الموت , ويُجسم المعاني , ويُشخص الأشياء , وكأن كل ما في الوجود كائن حي يتنفس ويتكلم تحت لسانه , إن إرثه الشعري يظل شاهدًا حيًا على أن الإعاقة الجسدية لا يمكنها أن تُعيق الإبداع , وأن البصيرة الداخلية هي النور الحقيقي الذي يهدي الشاعر إلى آفاق لا حدود لها.
من أشهر الطرائف التي تُروىَ عن بشّار ساقها أبو الفرَج الأصفهاني في كتابه الشهير (( الأغاني )) حيث قال إنه كان ذات يوم في مَحضر الخليفة عبد الملك بن مروان يُنشده شعراً مع حاشيته ووزرائه فدخل عليهم خالُ الخليفة متهادِياً , مترنِّحاً , يمشي صَبَباً , وحسب رواية أبي الفَرَج الأصبهاني : (( وكانت بخال الخليفة غفلة )) , فلمّا كان بمحضره سأل خالُ الخليفة بشّارَ بن بُرد فقال له: يا شيخُ ما صِنَاعَتُك ؟ فألتفت إليه بشّار وقال له: إنني أثقبُ اللّؤلؤ, فغاضَ ذلك الخليفة , وصاح في بشّار قائلاً: وَيْحَك يا هذا , أتتنادر بخالي؟ فقال بشّار للخليفة : وماذا تريدني أن أفعلَ به يا أميرَ المؤمنين , يرى شيخاً أعمىَ يُنشدُ الخليفةَ شعراً ويسأله عن صناعته , ومعروف أن ّالذي يعمل في صناعة اللؤلؤ , أو بالأحرىَ في ثقب اللؤلؤ, ينبغي أن يكون حادَّ النّظر, سليمَ البَصر, وعندما خرج بشّار مغتاظاً من عند محضر الخليفة , التقى به أحدُ أصحابه الذي كان حاضراً عند وقوع الحادثة , فقال له : لماذا كلّمتَ خالَ الخليفة بتلك اللّغة الاستخفافية , والاستهزائية , والاستهجانية بمحضر الخليفة ؟ فقال له بشّار: تالله يَا صَاحِ إنّني لأحمدُ اللهَ الذي ذَهَبَ ببصري حتى لا أرى الوجوهَ الكالحة من أمثال هؤلاء )) .
الشاعر الماجن بشار بن برد (714- 784م) الذي كان آخر من يُحْتَجْ به أو يهملونه , ذاك الفارسي الذي كان يكره العرب حتى صار من أعلام الشعوبية , كانت عبودية نسبه تلاحقه , ما سبب له شعورا بالنقص وجعلته متطرف السلوك , فقد كان يدافع بتعصب شديد عن نسبه الفارسي , وفي الوقت نفسه يحتقر الجنس العربي في أشعاره وحياته , وعلى الرغم من الأحكام القاسية التي يطلقها المؤرخون عليه , كان يقابل من ينظر نظرة تحقير إلى نسبه العجمي بافتخاره بالعجم , ويقابل من يحقّره من العرب بافتخاره بولائه إلى مُضَر, وهو يقول في ذلك : (( أنا ابن ملوك الأعجمين تقطَّعت /عليَّ ولِي في العامِرِين عِمادُ ,أنا المرعَّثُ لا أخفى على أحدٍ / ذرَّت بي الشمسُ للقاصي وللدَّاني )) , ومهما قيل على شخصه أو شعره , لكنه واحد من المجددين البارزين في حركة الشعر في العصر العباسي , على وجه الخصوص , وفي حركة الشعر العربي بأكمله , على وجه العموم .