مقامة سفلة السفلة

مقامة سفلة السفلة

قول ابن أبي أويس : قال مالك : أقبل علي ذات يوم ربيعة فقال لي : من هم السفلة يا مالك؟ قلت : الذي يأكل بدينه , قال لي: فمن سفلة السفلة ؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه (ترتيب المدارك وتقريب المسالك1/147) , وهذا ما شهدناه في أفعال رجال الدين البذيئة في عراق ما بعد عام 2003 , فهم ابعد الناس عن الدين , بل لقد ابتدعوا دينا جديدا لا علاقة له بالإسلام , وادغموه عنوة بالإسلام , ليشوهوا معالمه الرحبة.

مذ أن كنا صغارا , إحتفظنا بصورة نمطية عن الحرامي , شخص يضع قناعا أسودا على العينين , بملابس مخططة , وأعتقد أن هذه الصورة مستوردة هي الأخرى عن الثقافة الأوربية , وكلمة حرامي مشتقَة من (الحرام) بجدارة , وفي تراثنا الغابر حكاية عن ذلك الحرامي الذي إقتحم منزلا في أحد بغداد الفقيرة , فلم يجد ما يستحق السرقة لفقر حال أصحاب المنزل , سوى (محراث التنور) , ومحراث التنور هو سيخ حديدي مجعّد , تستخدمه ربة المنزل أيام زمان لتحريك قاع التنور لتكشف عن وجه الجمر تحت الرماد , ولكم أن تتصوروا حال هذا (المحراث) , وهو مكللا بالسخام والرماد , رفض ذلك الحرامي أن يخرج خالي اليدين , فدفعه خبثة أن يسرق محراث التنور , وما أن خرج من المنزل , حتى رمى به في قارعة الطريق .

لكن حتى حرامية أيام زمان  , يمتلكون شيء من النخوة على عكس حرامية هذا الزمان , فهناك قصة عن ذلك الحرامي الذي إقتحم منزلا فيه إمرأة مع إبنها الغلام , وهما نائمان , والمرأة تراقب ذلك اللص من تحت الغطاء وهو يجمع أغراض المنزل في عباءة هذه المرأة , حاول رفع العباءة بمحتوياتها , لكن الحمل كان ثقيلا , فما كان من المرأة إلا أن أيقظت صغيرها لمساعدة هذا اللص على حمل مسروقاته قائلة له (گوم شيّل خالك) أي قم وساعد خالك , فما كان من الحرامي إلا أن يرمي العباءة أرضا وغادر وهو خجلا , فرغم كونه ممتهن للحرام , إلا أنه لم ينسهِ نخوته  , وأنا لا أحاول أن التمس عذرا لحرامية أيام زمان , ربما تقطعت به السبل عن لقمة يلوكها , أو أنه أضطر لذلك بسبب حاجة ما , وأنا متأكد أن هؤلاء (الحرامية) , ما سلكوا هذا الطريق لو وجدوا ما يسدّ رمقهم بالحلال .

في عالم الجريمة المظلم , حيث تتعدد أشكال الاستغلال والتعدي على حقوق الآخرين , يبرز صنف من اللصوص يتميز ببشاعة أفعاله وانعدام أدنى درجات الإنسانية والضمير , إنهم (( سفلة السفلة )) من اللصوص , الذين يستغلون ضعف الضحايا وظروفهم القاهرة لتحقيق مكاسب دنيئة , تاركين خلفهم آثارًا مدمرة تتجاوز الخسائر المادية لتشمل الجروح النفسية العميقة , هؤلاء ليسوا مجرد سارقين يبحثون عن المال أو الممتلكات الثمينة , إنهم يتعدون على كرامة الإنسان وحرمة حياته , مستغلين ثقته أو حاجته أو حتى مرضه , تراهم يتربصون بالفقراء والمحتاجين , ينتزعون منهم قوت يومهم القليل أو مدخراتهم الضئيلة التي يعتمدون عليها في مواجهة صعوبات الحياة , لا يترددون في استغلال كبار السن وعجزهم , أو المرضى وضعفهم , أو حتى الأطفال وبراءتهم .

حرامية هذا الزمن , أثروا ثراءً فاحشا بحيث سيعيش أحفاد أحفادهم عيشة باذخة , لأنهم سرقوا بلدا بأكمله إلى درجة إفقاره , ولو لم توجد حرامية من هذه الشاكلة , كنا أغنى من أغنى دولة في العالم , نعم فحراميتنا لا يرتدون قناعا ولا بدلة مخططة مخصصة للسجون , بل يرتدون بدلات وربطات عنق , وإن كانت هذه البدلات هي التي ترتديهم , حرامية معروفون لدينا جميعا , وهم يعرفون أيضا , يستقلّون ارقى السيارات من طراز (جي كلاس) وغيرها , حرامية تتراكض أمامهم الحمايات والإمّعات الخَدَم , يقطعون الشوارع بوجه الشرفاء , على عكس حرامي ايام زمان الذي يستغل ظلام الليل , مرتعبا من صفّارة (الچرخچي) , مغطيا وجهه باللثام , وحرامي هذا الزمان مسفر الوجه , يسرقنا تحت ضوء الشمس !.

لقد تحوّل الدين في عراق اليوم , للأسف , إلى سلعة تُباع وتُشترى في سوق المصالح الرخيصة , فبعد عام 2003 , ووسط الفوضى التي عمّت البلاد , ظهرت فئة من (( رجال الدين )) الذين استغلوا جهل الناس وحاجتهم , فلبسوا عباءة الدين زورًا وبهتانًا , ليُحققوا مكاسب شخصية وسلطوية على حساب القيم والمبادئ الإسلامية السمحة , هؤلاء ليسوا سوى سفلة السفلة بحق , فهم لم يأكلوا بدينهم فحسب , بل أكلوا غيرهم بدينهم , وجعلوه أداة للسيطرة والقمع والفساد  , فلقد شهدنا كيف تحوّلت المنابر الدينية إلى منصات للتحريض على الكراهية والانقسام , بدلًا من أن تكون منابر للدعوة إلى الوحدة والتآخي , رأينا فتاوى غريبة وشاذة تُصدر لتبرير أفعال لا تمت للإسلام بصلة , وتُشرعن الظلم والفساد , لقد أصبحت الشعائر الدينية مجرد قشور تُمارس بلا روح , بينما تضيع القيم الجوهرية كالتسامح والعدل والرحمة .

لم يكتفِ هؤلاء بتشويه صورة الإسلام السمحة , بل عملوا على إقحام الدين في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية بطريقة تخدم مصالحهم الضيقة , فبات الدين ستارًا يُخفي وراءه صراعات على النفوذ والمناصب , ووسيلة لتبرير الفشل في إدارة شؤون البلاد , إنهم يتحدثون باسم الله وهم أبعد ما يكونون عن منهجه القويم , فهم يتلون آيات الكتاب ويخالفونها في أفعالهم , وهذا الدين الجديد الذي ابتدعوه , لا يهدف إلى إعمار الأرض ونشر الخير, بل إلى تدمير النسيج الاجتماعي, وزرع بذور الفرقة بين أبناء الوطن الواحد, لقد أضحى الدين لديهم مجرد وسيلة لتقسيم المجتمع إلى طوائف ومذاهب متناحرة , بينما يتنعمون هم بالسلطة والثراء على حساب آلام الناس ومعاناتهم .

إن فعل السرقة في حد ذاته فعل مشين , ولكنه يصل إلى قمة الانحطاط عندما يستغل الجاني حالة ضعف أو حاجة لدى الضحية , فاللص الذي يقتحم منزلًا خاليًا يختلف تمامًا عن ذلك الذي يسرق أرملة فقدت زوجها حديثًا , أو يتلاعب بمريض يعاني آلامًا مبرحة , في الحالة الأولى , يكون الدافع هو الجشع والرغبة في الثراء غير المشروع , أما في الحالة الثانية , فيضاف إلى ذلك استغلال بشع للضعف الإنساني وانعدام تام للرحمة , إن (( سفلة السفلة )) من اللصوص لا يكتفون بالسرقة المادية , بل قد يمارسون أشكالًا أخرى من الاستغلال البغيض , قد يستغلون سلطتهم أو نفوذهم لابتزاز الآخرين وسلبهم حقوقهم , أو قد يتلاعبون بمشاعر الناس وحاجاتهم العاطفية لتحقيق أغراضهم الدنيئة , إنهم يتفننون في إلحاق الأذى بالآخرين , ولا يرعون حرمة أو قيمة لأي شيء سوى مصالحهم الذاتية الخسيسة , وإن هذه الفئة من المجرمين تمثل وصمة عار على جبين الإنسانية , إنهم يجسدون أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من انحدار أخلاقي وقسوة قلب , إنهم لا يستحقون أي قدر من التعاطف أو التسامح , بل يستحقون أقصى درجات العقاب الرادع لجرائمهم البشعة .

إن ما يجري في العراق اليوم من فساد مستشرٍ, وضعف في الخدمات , وتدهور في الأوضاع المعيشية , ليس ببعيد عن ممارسات هذه الفئة , فمن يأكل بدينه , ويزداد سوءًا عندما يأكل غيره بدينه , لا يمكن أن يكون قدوة حسنة أو أن يساهم في بناء أمة , لقد حان الوقت ليكتشف الناس حقيقة هؤلاء , وينزعوا عنهم قناع الدين الذي استغلوه لتشويه الإسلام النقي وتحقيق مآربهم الدنيئة , في نهاية المطاف , يجب أن نتذكر دائمًا أن المجتمع السليم يقوم على قيم العدل والرحمة والتكافل , ومواجهة هذه الفئة المنحرفة من اللصوص تتطلب تضافر جهود الجميع , من الأفراد والمؤسسات , لتعزيز هذه القيم وحماية الضعفاء والمحتاجين من براثن هؤلاء الانتهازيين عديمي الضمير, إن محاربة الجريمة بكل أشكالها , وخاصة تلك التي تستغل ضعف الإنسان وحاجته , هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية تقع على عاتقنا جميعًا.