22 ديسمبر، 2024 9:29 م

مقامة رهان الواثقين

مقامة رهان الواثقين

كتب أحد ألأصدقاء على صفحته نصا صغيرا : (( رهان الواثقين : عندما اخبرته بان قلبي من طين , سخر مني لان قلبه من حديد , قريبا ستمطر الدنيا , سيزهر قلبي , ويصدأ قلبه )) , ولأن هذه العبارة تحاكي العقول , وتلسع الأرواح , وتستر على المبتلين بداءات القلوب المكلومة , وتعطيهم غطاءا ليفيضوا , وجدت نفسي اتماهى مع ما كتب , لأقول :

إن زوار الفردوس بعد قيامهم من بين الأموات , يبكون فينبعث من دموعهم عطر, تذوب لمرآه القلوب , ووالله إنّي لمن البكّائين .

الشّعرُ العرفانيُّ خطير جدّاً , ما احترقَ بنيرانه أحد , إلّا وعافَ الفراديس كلَّهَا , وما عاد يرغبُ بالحور العين ولا بالغلمان واللّؤلؤ ولا بالمرجان والاستبرق , وإنّما تصبحُ عينه على صاحب المُلك والملكوت شخصيّاً , إمّا هو وحده صاحب اللّعب الكبير, والشّأن الخطير وإمّا لا , ومن يصل إلى هذه المرحلة من الشّعراء , يُفتحُ له باب الاختبارات والامتحانات على مصراعيه , فإمّا يكون قادراً على ركوب الأهوال كلّها , وإمّا فليتنحَّ جانباً , والشاعر الشيخ , الذي كان تصوّفه مزيجاً من الروحانيَّة والحِكمة , غاص في أعماق الإنسان , ففاضت أشعاره في كل المعمورة حُبّاً وحِكمةً , ليبلغ أرقى درجات العبقريَّة الشعريَّة.

يحتاج الناس للبعد الروحاني , ويرتبطون بالعالم الماورائي , ولم تستطع أي حركة أن تقضي على هذا الجانب , لأنها لا تجيب عن الأسئلة الكبرى , جزء من سعادة الإنسان في الماديات , ولكن أيضاً في الروحانيات , الإنسان كائن مفكر ومتخيل ويعيش بذهنه في عوالم أخرى طوال الوقت , لا يمكن بتر هذا الجانب من شخصيته , ولهذا تستعيد الأديان والروحانيات زخمها كلما انحسرت , وفي عالمنا الحديث يشعر كثيرون بالتوحش والإحباط والكآبة وبأنهم تروس في ماكينة لا تعرف التوقف , ويبحثون عن يد روحانية حانية تكسر عزلتهم , وتبعث فيهم الطمأنينة والأمل , وكل ما فعله الفلاسفة هو أنهم أخذوا من الأديان جوهرها الذي يبث السعادة والطمأنينة في قلب الإنسان , وبالوقت ذاته لا يتعارض مع الحياة المعاصرة ولا العلوم الحديثة.

 

عندما ترقص قلوب الدراويش ,يخرج الشاعر والعالم المتصوف الذي أدهش , ولايزال , العالم بأشعاره , لصلاة الفجر , فيرى الورد وزهر الربيع تغمره الندى , فيتيقن المعنى الحقيقي للجمال والنقاء , ولدى سماعه غناء الطيور, يفتح قلبه للدنيا ويبدأ يدور , مردداً : (( المجرات تدور, الكواكب تدور, والدورة الدموية في الجسم تدور, الحجاج حول الكعبة يدورون , وقطرات الماء من البحار إلى السماء فالأرض عائدة إلى البحار, كلها تدور)) .

دعونا نقرأ مما كتبوا : (( حينما زُرْتَني قال أهلي قد تكونُ: ملاكاً حارساً أو وليّاً صالحاً أو جنّيّاً عاشقاً أو طارقاً بخَيْر, كان لا بدَّ أن تمرَّ خمسون سنة لكي أفهمَ أنّكَ أنتَ وحدكَ مَن كان ولمْ يزل يزورني ولا أعتقدُ أنّ أحداً له اعتراضٌ على ذلكَ فلا يوجَدُ دستور يمنع حبيباً من زيارة حبيبتِه , وَحْدَهُم أشباهُ العرفاء يعترضون وَحْدَهُم يُنْكِرون أنّني النّقطة والحانة , وأنَّ كلَّ ما أراهُ أو أسمعُهُ: أنتَ , ذابتْ عيني وانصهرتْ أُذُني مِن صُوَركَ العجيبة وأصواتكَ الغريبة وهُمْ مازالوا لليوم يسألون بأيّةِ عيْن أراكَ , وبأيّة أُذُنٍ أسمعُكَ بل بأيّ جسدٍ أُسَافِر إليكَ ؟ فهل أبوح يا مولاي ؟)) .

(( حبلت بك من اذني : التّعساء النّائمون في الخمرة والعسل المصفّى , قلبٌ يُخْرِجُ الحيَّ من الميتِ , والميتَ من الحَيّ ويركبُ الأخطار والأهوال ويضيع , يضيع , يضيعُ في الفيافي , ولا يعود سائح سرمديٌّ بأسمال خُضْرٍ, لا يروي عطشَه أحد فهل تقوى على هذا أيّها الدّرويش؟ لا أحد يُطيق نيرانَ العشق وأنواره , ولا امتحاناته الكبرى , والكلّ يدّعي العشقَ ويكتب عنه , وما ذاق طعمه أحد , إنّه مرٌّ كالعلقم في بداياته وحلو كالشّهد في نهاياته , ونار حارقة وبرد زمهرير في الآن نفسه , وما احتواه فؤاد إلّا وأصبح ذا صلاة حارقة , ما وقف خلفه أو أمامه أحد إلّا صُعق وصُرع , والشّاعرُ العاشق مبتلى بالابتلاءات كلّها , منخطف لا حضور له بين الخلق , إنه الباكي أبداً بين يدي ربّه , يتلمّس طريقهُ كالضّرير مخافة أن يلحظ عماه أحد , فلا بدّ أن تعمى يا صاحبي كي ترى بقلبكَ ما لا يراه الآخرون , ولا بدّ أن تصمّ أذنيْك عن كلّ شيء كي تسمع ما لا يسمعه الآخرون , وتحبل منهُما بالكلمة المُقدّسة , ولا بدّ أن تختفي من عالم الكثرة كي تظهر في أراضي الاختبارات الخيميائيّة الكبرى , هناك حيث الإله يتحدّث بالهيروغليفيّة والآراميّة والسّنسكريتية , لا بدّ أن تكون صاحب جلاءٍ لغويّ لتسمع وتفهم أيّها القارئُ الدّرويش الضّرير , ولا بدّ أن تدير ظهركَ للعوالم كلّها وتجثو على ركبييْكَ وتطلب من صاحب الكون أن يكشف لكَ عن ذاك الخيط الرّفيع الّذي يربط عالم المادة بعالم الرّوح )) .