تحدث أحد الأصدقاء عن الاثر الذي تتركه المقاعد والطاولات في ذاكرة الخشب , فوجدت ان أسهب له حول الموضوع .
التفاعل مع الأشياء , والنحت على الذات , وتقشير الخلايا الميتّة ضروريّ يومياً , وفصلياً حتى لا نشيخ , ونفقد التوازن , لهذا تعد الذاكرة أمرًا حيويًا للتجارب وذات صلة بالجهاز النطاقي , هي عملية الاحتفاظ بالمعلومات لمدة من الزمن لغرض التأثير على الأفعال المستقبلية , إذا كنا لا نستطيع تذكر الأحداث السابقة , لن نکون قادرین علی أن نطور اللغة , العلاقات , أو الهوية الشخصية , ولمقاعد وطاولات الخشب لغات ولها حكايات , فهي وجه يتكلم , يحكي قصة الساكنين , ثقافتهم , أفكارهم , سمات وجوههم , وهي صدر مفتوح للريح الطيبة , و كف تقول : لا للريح المسمومة , يقولون دق على الخشب لطرد الحسد , او تجنب ضربة العين , وهي جملة مستعملة لدى معظم الشعوب بنفس المعنى ولنفس الغرض , والانجليز والامريكان يقولون امسك الخشب او دق على الخشب Knock on wood or touch wood وهي تقال عندما يراد ان يستمر الشيء الجيد او ان لا يحسد المرء نفسه , وهي تعتمد على معتقد خرافي لحماية الشخص من الشر او الشيطان بعضهم يقول ان اصلها يعود الى الرومان الذين كانوا يعتقدون ان آلهتهم تعيش في الغابات بين الاشجار وان مسك الخشب ( او الدق عليه) تقربهم من تلك الالهة وتباركهم وتحميهم من الشر او الحسد , التفسير الاخر يقول ان هنالك من كان يعتقد بأن الارواح تعيش في نبات اسمه حورية الغابة dryads وان الدق على الخشب يمنع تلك الارواح من سماع الجملة التي قيلت فلا تتدخل لتعكس الخير الى شر .
الخشب هو العنصر الأكثر حميمية ودفئاً في المنزل , وهو الأقرب إلى النفس والأكثر إثارة للذكريات , بدونه يفقد المنزل بهجته , وتجتاح المنزل موجة من البرودة , فكيف إذا كان المنزل بأكمله مصنوعا من بالخشب ؟ فهذا يشعرك بأنك تعيش في حضن الطبيعة , وتستنشق شذا عطرها , وعلى الرغم من كثرة استخدام المواد في البناء مثل الحديد والنحاس والألمنيوم والزجاج ولكن لم تستطع أي من تلك المواد أن تعوّض عن الخشب.
بعض الشعوب ( مثل الالمان والدنماركيين ) ينقرون اسفل خشب الاثاث وليس على السطح لاعتقادهم ان اسفل الخشب هو اكثر نقاءً من السطح المصبوغ او المغطى او المستعمل , او لانهم يرون ان النقر على اسفل الخشب اسلم من النقر من فوق كي لا تأتي النقرة على رأس الارواح التي تسكن الاشجار فتغضب من الناقر , آخرون يربطون بين النقر على الخشب ( او لمسه) والتبرك بلمس خشب صليب السيد المسيح , وكان المسيحيون يلمسون الصليب للبركة والشفاعة , وعندما تعذر عليهم لمس الصليب الاصلي صاروا يلمسون صليبا صنعوه من الخشب , ومن ثم اكتفوا ( للسهولة) بالتبرك بلمس اي خشب واقرب خشب لديهم هو بلا شك قطعة الاثاث التي امامهم ( الطاولة ) او التي يجلسون عليها ( المقعد) .
ما أطيبه ُ إنقطاع النفس ,تمْتصُّ ذاكرة الخشب وقْتُ طفولتِي , فحبوْتُ علَى هامشِ طاولتي الصغيرة , وأنا أدْهنُ الْهواءَ بِأصابعِي , و أبْحثُ عنْ لسانِي لِأتذوّقَ طعْمَ الْيقينِ , و بيْنَ أصابعِي ولسانِي ثغْرةٌ يمْلؤُهَا الصّراخُ , والصّمْتُ ليْسَ ذهباً ولَا الْكلامُ فضّةً , إنَّهُ افْتضاضُ الْمعْنَى , هوَ ذهبٌ لَا يصْدأُ حينَ يتحمّلُ معْناهُ صمْتاً أوْ نُطْقاً, و متَى لمْ يكنْ هوَ مجرّدُ كلامٍ , فللكلام معْنَى , الصّمْتِ لِلصّمْتِ , معْنَى الْكلامِ , تلعب ذاكرة الخشب على ثنائية الخفاء والتجلي وتستمد منها الإيقاع الصوفي , بلوحات كتومة , مشدودة للداخل , تبدو وكأنها تخاطب العقل الباطن وانفعالات الروح في رحلة فنية شيقة , مفعمة بدفء الأرض كرحم مكاني , لدورة الميلاد والطفولة ومشاغبات الموت والفقد , وفي الوقت نفسه , كحلم ينشد حريته دوما بالتخلص من جاذبية الأرض , والصعود إلى الأعلى , بهذه الرغبة تجابه مسطحات الخشب , وبخبرة الحفر, تسعى لكسر صمت المقاعد و الطاولات , وحيادية هذه المسطحات باستعارات لونية من صبغات البني والأسود والأبيض , تتدرج ما بين الخفة والثقل , حتى لتبدو وكأنها تفيض عن اللون الطبيعي للخامة نفسها , كما تضفي على حركة الأشكال والخطوط حالة من التقشف والزهد والوقار , وبينما يتكثف الإحساس بالإيقاع ويتجسد بتداخل وتوالد الترددات والتوريقات النغمية مع التماهيات الروحية , في رحم الوعي ليشكل نقطة الجذب ومحور الإيقاع لكل عناصر التكوين الروحي .
كشفت خبيرة من جامعة أكسفورد عن تأثير رائع يُحدثه لمس الخشب على الراحة النفسية , وقالت البروفيسورة كاثي ويليس : (( إذا قمت بلمس الخشب , فإن ذلك يشبه إلى حد ما مداعبة الكلب فيما يخص الراحة النفسية , ويمكن أن يخفض ضغط الدم , مقارنة بلمس الرخام أو الفولاذ , حتى لو كانت جميعها بدرجة الحرارة نفسها )) , وأوضحت أن ذلك يرجع إلى الرائحة التي لا تزال تنبعث من الخشب , حتى بعد عقود من قطع الشجر , وقيل إن الألواح الخشبية غير المعالجة تجلب أكبر الفوائد , و قالت ويليس : (( الألواح الخشبية في أثاث المكاتب وغرف المدارس والمنازل تنبعث منها هذه الرائحة , وتستمر هذه الرائحة لسنوات عديدة , كان لدى الأشخاص الذين عملوا على اختبار في غرفة خرسانية مقابل اختبار في غرفة من الصنوبر, فرقا كبيرا في الدرجات , واقترحوا أن الأمر قد يكون له علاقة بالرائحة )) , ووجدت العديد من الدراسات أن المشي في الحدائق والغابات , يمكن أن يساعد على التخلص من التوتر والقلق , وخفض ضغط الدم وضبط مستويات السكر في الدم , وتعزيز جهاز المناعة .
يقول الشاعر الشعبي : ((عايش وﻻكن ألم , عيشه خشب علجمر , خايف يهب الهوى ويضيع مني العمر , مابين نار وقفص خيرني هيج الوكت , بيناتهن بس هجر , وجروحي كومه علي , بالليل نسهر سوه حد مايطر الفجر , وياي جنهن بشر بس عاشكات السهر , بعيونهن جن ملح , مابين هم وقهر , الهن صرت جن ارض وجروحي بيه ملح , ولو راد يغفى جرح , كلهه عليه تجتمع ويفززنه بملح , هيج انه حالي صفه , مل مني حتى الهوى )) .
قال الحجاج : أخبرني عمن خُلق من الخشب ؟ والذي حُفظ بالخشب ؟ والذي هلك بالخشب ؟ فكان الرد : الذي خلق من الخشب هي الحية خلقت من عصا موسى , والذي حفظ بالخشب نوح , والذي هلك بالخشب زكريا .