يقول الفقيه الشاعر الشيخ عبدالله بن علي العبدالقادرالشافعي الاحسائي :
(( دع الهويني لاهل العجز والكسل وعانق الصبر واغنم ساعة العمل
ولامس النجم في عز وفي شرف وسابق لريح في حل ومرتحل
والله لو كنت تدري ما خلقت له لبات قلبك بالأشجان في شغل
ولا سعدت بنوم أو لهو بما يلهيك عن منزل السادات والنبل
ولا رضيت بدنيا كلها ندم سعت لكل حقير من بني السفل
مات الملوك واهل العلم ذكرهم كالمسك في الناس ند مشرق جزل)).
نُشر كتاب بول لافارغ (الحق في الكسل (بالفرنسية Le Droit à la paresse عام 1883, وفيه يعارض الاشتراكي الفرنسي لافارغ نضال الحركة العمالية لتوسيع نطاق العمل المأجور بدلاً من إلغائه أو على الأقل الحد منه , فهو يعتبرإن العمل المأجور يعادل العبودية , وأن النضال كحركة عمالية من أجل توسيع نطاق العبودية أمر سخيف , ويقترح الحق في الكسل على النقيض من الحق في العمل الذي يعتبره برجوازيًا , وهذا يعد اقتباس أولي من غوتولد إفرايم ليسينج ((دعونا نكون كسالى في كل شيء , إلا في الحب والشرب , إلا في الكسل )) , يقرأ في مقدمة الكتاب: (( إن وهمًا غريبًا يسيطر على الطبقات العاملة في الدول التي تسيطر عليها الحضارة الرأسمالية , هذا الوهم يجر في أعقابه المحن الفردية والاجتماعية التي عذبت البشرية الحزينة لمدة قرنين من الزمان , هذا الوهم هو حب العمل , والشغف الشديد بالعمل , الذي يدفع حتى إلى استنفاد القوة الحيوية للفرد وذريته , وبدلاً من معارضة هذا الانحراف العقلي , ألقى الكهنة والاقتصاديون والأخلاقيون هالة مقدسة على العمل )) .
كتب الفيلسوف الأنكليزي برتراند راسل مقالة عنوانها (( في مدح الكسل )) , ورد فيها قوله : (( أعتقد أن العمل الذي يُنجَز في العالم يزيد على ما ينبغي إنجازه بكثير, وأن ثمة ضررا جسيما ينجم عن الإيمان بفضيلة العمل )) , وأشار في مقاله إلى أن الكسل كان ضرورة لقيام الحضارات وتطوُّر أصناف الفنون , ولكي يتحقَّق ذلك , كان لا بد أن يعمل البعض (العبيد) كثيرا حتى يرتاح الأسياد ويتفرَّغوا للإبداع , وحتى يحافظ الأغنياء على مكانتهم تلك , كان لا بد من ابتكار ( فضيلة العمل ) فالفرد الصالح هو الفرد الذي يعمل كثيرا , وانا اعتقد ان ما أراد راسل قوله منذ 90 عاما هو أن الكسل فضيلة فقط إن كانت متاحة للجميع بالتساوي.
وقد سرد راسل في هذا الكتاب , قصة المسافر في نابولي بإيطاليا , الذي رأى اثني عشر شحاذاً مستلقين في الشمس , فعرض أن يقدم ليرة لأكثرهم كسلاً , فهبّ أحد عشر رجلاً لتلقي الليرة , ولكنه نفحها للرجل الثاني عشر الذي بقي مستلقياً لا يتكلف عناء السعي لتلقي الجائزة , لكنّ راسل , أمتدح الرجل الثاني عشر قائلاً : (( الكسل في البلاد التي لا تستمتع بشمس البحر الأبيض الساطعة أكثر مشقة , ولا بد من دعاية ضخمة لإرساء قواعده )) ,
ربما لم يُدرك راسل ان آرائه كانت ثورية بمقاييس عصره , بالمناسبة سمعت مرة قداسا لواعظ كندي يصف فيه الجنة بأنها سواحل مشمسة ( Sunny shores ) .
صدر كتاب برتراند راسل (في مدح الكسل) عام 1935, وفي ذلك الوقت لم تكن التكنولوجيا قد وصلت إلى ما هي عليه اليوم , حيث وفرت وسائل الاتصال وتقنيات الجيل الرابع منصات رقمية تدير عمليات واسعة من التجارة العالمية , ونحن على مشارف عصر الجيل الخامس الأكثر إبهاراً وتطوراً , وسائل الإنتاج هذه خلقت نظاماً أكثر مساواة بين العاملين , من حيث الجهد ومستوى الدخل أيضاً , وأصبح الجميع بحاجة إلى الفراغ لكي يبدعوا أكثر, ويقرأوا , ويسافروا , ويحصلوا على إثراء معرفي , ويمنحوا عائلاتهم مزيداً من التفرغ والاستمتاع , ولا غرابة أن تصبح الدول الأكثر تقدماً في مؤشر السعادة على المستوى العالمي , أكثرها تقليصاً لساعات العمل , وأكثر النظم التعليمية تقدماً تلك التي لا ترهق التلاميذ بعناء لا يطاق من الواجبات المنزلية.
وصف تولستوي رواية (( أوبلوموف )) لغونتشاروف التي ظهرت في القرن التاسع عشر بأنها ( تحفة كبرى) , وقال عنها دوستويفسكي أنها (رواية خدمتها موهبة براقة ) , وهي واحدة من أشهر الروايات الروسية التي طبّقت نظرية ( حق الإنسان بالكسل ) حتى الموت السعيد , ومنها ظهر مصطلح (( الأوبلوموفية )) , وكسل أوبلوموف يتجاوز كل المواصفات التي يوردها بول لا فارج , صهر كارل ماركس , في ثنايا كتابه الأشهر (( الحق في الكسل)) , فإذا كان لافارج يعيد النضالات العمالية وكل الإيديولوجيات المرتبطة بها إلى مطالبة الناس بحقهم في الكسل دون أن يمنعهم ذلك من الحصول على كل متطلبات العيش , فإن أوبلوموف لا يتوقف أبدا عند تلك (الصغائر الإيديولوجية ) , ولا يطالب بشيء ولا يناضل من أجل شيء , كل ما في الأمر أنه ( يمارس حقه في الكسل ) دون أن يبالي حتى بجعل ذلك دعوة أو مذهبا أو مثلا أعلى , وهو ما يقودنا إلى ( الأوبلوموفية) .
كتب سعيد خطيبي : من الكسل تولد الفكرة , فالكسل ليس ( أم الآفات ) , كما تردد الألسنة بل إنه أم المشاريع الحاسمة التي سرعان ما سوف تُجهض إذا بادرنا إليها بجهد وتعب , وتنازلنا عن حقنا في الخمول , الا ان أبو بَكرٍ الخوارِزميُّ قال :((لا تَصحَبِ الكَسلانَ في حالاتِه كم صالحٍ بفسادِ آخَرَ يَفسُدُ , عَدوى البَليدِ إلى الجَليدِ سَريعةٌ والجَمرُ يوضَعُ في الرَّمادِ فيَخمُدُ)) , وقال آخَرُ: ((غَيرَ أنَّ الكَسولَ في كُلِّ يومٍ يجِدُ اليومَ كُلَّه أهوالَا , مِن يُقيمُ الأُمورَ في الجِدِّ يَهْنا والشَّقا للَّذينِ قاموا كُسالا)) , وقال عَبدُ العَزيزِ الدَّميريُّ : (( وتَرَقَّبوا قُربَ الرَّحيلِ وحاذِروا فوتَ المَرامِ فلِلورودِ مَصادِرُ , ودَعوا التَّعَلُّلَ والفُتورَوصابِروا وتَراكَضوا خَيلَ الشَّبابِ وبادِروا )).